بعد التسعين
ها أنا أتجاوز التسعين بثلاث سنوات و يا إلهي …متى حصل كل هذا و أنا غافل عما مرّ بي من هموم و أحداث. فكيف أحتفل بعيد ميلادي و الأجدر بي أن أنزوي إلى ركن خفي أداري فيه ذكرياتي البائسة .. و ما أكثرها !..
هيهات يارب السماوات و الأراضي ..يا خالق البؤس كما خلقت الفرح و السعادة . فماذا أقول الآن و أنا أخط هذه الأسطر لعلك ظلمتني أم كنت رحيما بي ؟ و من أنا و غيري من المخلوقات حين يخطر على بالنا أنك أيها الخالق الأعظم و الأبهى كما يجب أن نقول حين نواجه حضورك الخارق بحضورنا التافه و البائس ؟!
ها هو ذا المتنبي الشاعر الشبيه بالأنبياء يتجرأ و يواجه ربه بهذه الأبيات :
وَإِنَّما الناس بِالملوكِ وَما تفلحُ عربٌ ملوكها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندهم وَلا حَسَبٌ وَلا عُهودٌ لَهم وَلا ذِمَمُ
بِكلّ أرضٍ وَطئتها أُمَمٌ ترعى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ
يَسْتَخشِن الخَزّ حينَ يَلْمسهُ وكانَ يبْرَى بظُفْرِهِ القَلَمُ
و كأن المتنبي يقول : كيف يارب تخلق بشرا بهذه الصفات الرديئة إلى هذا الحد ؟! و الرب لا يعبأ بالإجابة على هذا الوصف الوحشي الذي يطرحه الشاعر . فما عساني أقول أنا العجوز المسكين الذين صار كالأصم الذي لا يسمع غناء الكون حين ترافقه موسيقا الطيور و أوراق الشجر و نسائم الأصيل . و ليس سوى أوجاع الشيخوخة و همومها .
ولا جواب على سؤالنا : لماذا خلقتنا يارب ما دامت نهايتنا مصحوبة بكل ما في الدنيا من أوجاع ؟
و مرة أخرى لا أجد خاتمة لائقة بما أشكو منه سوى المتنبي حين يقول :
فؤادٌ ما تُسَلّيهِ المدامُ وَعمرٌ مِثلُ ما تَهَبُ اللِئامُ
وَدَهرٌ ناسهُ ناسٌ صِغارٌ وَإِن كانَت لَهم جثثٌ ضِخامُ
وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم وَلَكِن مَعدِن الذَهَبِ الرَغام
أَرانِبُ غَيرَ أَنَّهُمُ ملوكٌ مفَتَّحَةٌ عيونهمُ نِيام
هيهات يا صديقي المتنبي … لا شاعر بما تلك فما عساني أنا الشاعر العجوز بعد التسعين يقول مودعا في مجتمع شبيه بما تصف !!..