ثقافة الاعتذار
ثقافة الاعتذار … حين ظهرت رسالة الإسلام ,ودّع الكثير من شعراء المديح أسيادهم في أطراف الجزيرة العربية وقالوا للذين كانوا يسترزقون من مدحهم : (اعذرونا على هذا الرحيل …لقد وجدنا من هوّ أولى منكم بالمدح…إنه سيّد بني هاشم في قريش) ,كما فعل حسّان بن ثابت وعبد الله بن أبي رواحة ….وغيرهم من الذين أدركوا أنّ الله أحقّ بالمديح.
أمّا كعب بن زهير-سليل الأسرة الشاعرة- فقد جاء نبي ّ الإسلام في المسجد وهو ينشد قصيدته الشهيرة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *متيّم إثرها لم يجز مكبول
يسعى الوشاة جانبيها وقولهم *إنّك يا بن أبي سلمى لمقتول
نبّئت أن ّ رسول الله أوعدني *والعفو عند رسول الله مأمول.
ما كان من أبي القاسم إلاّ أن خلع بردته وألبسها كعب بن زهير ,فآمنه من خوف بعد أن كان قد أمر بهدر دمه مثل ما فعل مع أميّة بن أبي السّلط….ذاك الذي تطاول على الرسالة المحمّدية ,وكاد أن يدّعيها لنفسه.
الاعتذار –كما السلام –لا يأتي إلاّ من قويّ لقويّ …ذلك أنّ الأيادي المرتعشة لا تقوى على البناء…والتاريخ لا يصنعه الجبناء.
المعتذرون ,يعرفون زلاّت الألسنة التي تسبق الأدمغة …هم شعراء مثل كعب و حسّان و زهير,والذين سوف يأتون بعدهم….إنهم الحقيقة التي تقول دائما :(أن لا فوات لأيّ أوان).
المعتذرون قوم من النبلاء الذين غلّبوا غريزة المكابرة …ونظروا إلى أنفسهم جيّدا في المرآة…وحتى خلف المرآة …ومن يقف أمامها.
المعتذرون يصفح عنهم التاريخ كما فعل مع شارل ديغول الذي قال للجماهير الغاضبة في ماي أيار 68:(لقد فهمتكم)..ثمّ غادر قصر الإليزيه بعد أن ساهم في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي.
قل لي كيف تعتذر,وممّن تعتذر ,وعلى ما تعتذر…أقول لك من أنت.
صبور ونبيل ,من ينتظر اعتذار المعتذرين بعد جيل وأكثر ,كاذب من يعتقد دائما أنّ الألسنة تسبق أصحابها للحقيقة في كل مرّة….أليس اللسان حصانا يكبو بصاحبه في كل مرّة…!؟.
كريم ووفيّ من يقبل الاعتذارات ويقابلها بالحلم والسماح,كما فعل سيّد بني هاشم ,حين خلع بردته وألبسها لكعب بن زهير ثم قال :(عفا الله عمّا سبق) ,وكذلك فعل مع قاتل عمّه ومحرّضته هند بنت عتبة حين تساءلت في رجاء:(أنبيّ وحقود..!؟).
الاعتذار النبيل هو ما قاله عبد الله بن الزبيّر حين نعي إليه خبر وفاة معاوية بن أبي سفيان :(رحم الله معاوية,لقد كنّا نخدعه فينخدع لنا…وما ابن أنثى بأكرم منه)
وحده اللوم يحرّض على الاعتذار كما ورد في روميات أبي فراس الحمداني ومعاتباته لسيف الدولة ,كذلك قصائد أبي الطيب المتنبي ,ذلك أنّ مصدره هو التفكّر في وقع ما لم تكن تتوقّعه ,إنه القلب حين يعتذر من العقل ….وهما في جسد واحد….
ما أجمل أن يعتذر الواحد عمّا لم يرتكبه ,كأن تبدي أسفك لحبيبتك من سوء الطقس وتشكرها على حضورها وجمالها.
الاعتذار من البشر إلى البشر نبل وتسامح, أمّا من الله فتوبة وتقوى ,والفرق واضح بين الخطأ والخطيئة,بين علاقتنا العموديّة وعلاقاتنا الأفقية.
لو تأمّلنا في فلسفة الاعتذار وحكمته, ترى, كم من الأحياء سوف يعتذرون للأموات …وكم من الأموات سوف يعتذرون من الأحياء بعد فوات الأوان .
إنّ ما يعرف في قاموس الشعوب ب(إعادة الاعتبار) هو إنصاف متأخّر للذين ظلموا ,أمّا ما يسمّى بإعادة المحاكمة فهو ثأر متأخّر ومحاولة جديدة لطلب الغفران من العدالة الإلهية.
كان الأجدر أن نعتذر من المعتذرين ,وتكرّم الثورة الفرنسية الملكة(ماري أنطوانيت)حين دهست بكعب حذائها قدم جلاّدها وهي تعتلي المقصلة, وقالت برقّة النبلاء :(عذرا ,لم أكن أتقصّد ذلك).
ولكن…هل يكفي أن يعتذر الفرنسيون-شفهيا – من شعبي الذي امتصّوا ثرواته زهاء قرن من الزمان ,هل يكفي أن تتحوّل حظائر الاعتقال العنصري إلى متاحف في افريقيا ,و أراضي الهنود الحمر إلى محميات في أمريكا…هل يبلسم هذا العالم جرح فلسطيني ويرمّم ذائقته السمعية والبصرية التي تربّت على أزيز الرصاص ومشاهد الدمار.
14.10.2013