ثقافة المواسم
ثقافة المواسم …حجب الله عن الشجر و الطير والزواحف والدواب ملكة النطق والتفكير وتقرير المصير وعوّضها بغريزة الإلهام في التناسل والحضانة والحلم والسبات و الصيد والاكتئاب والهجرة والسلم والحرب …وحتى الانقراض والانسحاب لصالح الأجدر والأبقى، وفق مبدأ ” الانتخاب الطبيعي ” كأعرق وأبقى “ديمقراطية ” على سطح كوكبنا الأزرق .
لكنّ الله قد ابتلى كلّ هذه الكائنات الوديعة المعطاءة بامتحان عسير، حين أنزل عليها ” ابن آدم ” ضيفاً ثقيلاً وقد جاء يقضّي فترة عقوبته بينها بعد خطيئته الأولى في جنان الخلد كما تخبرنا جميع الكتب السماوية المقدسة .
اشتدّت غيرة الإنسان من النبات والحيوان في قصّة مواسمها التي رآها تأخذ طابعاً استعراضيّا فعمل على تقليد شريكيه في الأرض وبدأ بابتكار “روزنامته الخاصة ” للاحتفال بما يمكن له أن يمارسه دون غريزة أو إلهام كالحب والحرب والهجرة والأمومة واللعب والانقراض…..
وضع مواقيت وجداول صارمة لأفعال كان من الممكن أن تكون طبيعيّة وحاول جاهداً أن يلتزم بها إلى حدّ الهوس والتقمّص ـ ومن دون منطق أو مبرّر أو موجب أخلاقي أو شرعي في أحيان كثيرة ـ ….إنه يفعل ذلك ليزيد من تعقيداته، في الوقت الذي يسعى فيه أن يكون بسيطاً كالماء و الحجر والطير و الشجر!
هذا عن الإنسان وعلاقته بمحيطه في مطلق التعريف والصيغة المجرّدة من كلّ الثقافات والخصوصيات الحضاريّة …أمّا عن إنساننا العربي فيبدو المشهد أكثر غرائبيّة وفظاعة تصل إلى حدّ الكاريكاتير فيما يخصّ هوسه بصيد المواسم، قنص المناسبات وتمثّلها حتى أمسى “كائناً طقوسيّاً ” .
إليكم مثالاً حيّاً نعيشه في هذا الشهر الكريم ـ وكل أشهر الله وأيامه خير وبركة على كلّ حال ـ ألا ترون معي أنّ نعمة الإيمان لدى الكثير منّا قد قذفت في صدورنا قذفا بمجرّد أن التمسنا هلال رمضان، فاعتكفنا للتقوى والتعبّد الذي بلغ حدّ “الورع ” فتعجّ شاشاتنا بالابتهالات والمواعظ، وما أن يرتفع آذان المغرب حتّى تمتدّ الأيادي وتنفتح الأفواه إلى شتى أصناف الطعام التي كنّا قد حفظنا وصفاتها في بثّ الظهيرة، ثمّ تشرئبّ الأعناق وتجحظ العيون أمام “كرنفال الدراما ” القادم من نفس الصندوق العجيب الذي يحتلّ صدر البيت ………ألسنا نعيش ثلاث “مهرجانات ” في موسم واحد …؟! …ماذا نفعل في شهر شوّال ؟!.
قس على ذلك في مواسم ” الوطنيات ” وغالبية الأبواق المبحوحة والكاذبة عند كلّ مناسبة وطنية لا تكلّفهم مالاً، أو فاجعة تهزّ كيانهم المزعوم على حين “غفلة ” …إنّ حال هؤلاء المزايدين مثل حال خسيس ينزل فندقا ويتململ حتى من دفع الفاتورة .
كثيرة هي مواسم استعراض القيم النبيلة في بلادنا العربية كاحتفالات عيد الأم لدى من يبالغ في تمجيد أمه ثمّ يمعن في إهانة زوجته وشقيقته وابنته وكأنّ والدته جنس ثالث لا تنتمي إلى عالم المرأة، أمّا عن موسم الحبّ وعيده فلعلّه يختصر بحكاية الشاب الذي قصد متجراً يوم “فالانتاين “، اقتنى أربعة عشر “دبدوباً ” أحمر وطلب من البائع أن يكتب على كل واحد منها ” إلى حبي الأول والوحيد ” .
كلمة في الزحام
حين سكنت في حياتي الطلابية بيتاً يتوسّط مقبرة وكنت في ذات الوقت أعمل نادلاً في قاعة أفراح …. تعلّمت الاحتفاظ بملامح وجهي كلّ صباح الاستهتار بمواسم الحزن والفرح على حدّ سواء .