حديث الجسور
حديث الجسور… لعلّ أجمل وأروع قصّة حب في تاريخنا المعاصر هي حادثة لقاء وعناق روميو البوسني وجولييت الصربيّة فوق جسر سرايفو تحت جحيم الإقتتال الأعمى والتطهير العرقي.
استشهد العاشقان بوابل من رصاص الحقد القادم من (العائلتين) المتخاصمتين أثناء تلك الحرب المجنونة في يوغسلافيا السابقة.
هكذا ازدادت شفاه العاشقين حمرة بفعل بركة الدم التي سبحا فيها,مرّة واحدة وإلى الأبد.
عفوا, شكسبير, لم تعد تهزّني مسرحيتك المخمليّة التي تدور أحداثها في فلورنسا الهادئة الوديعة ….إنّ قصّتنا هذه قد دارت تحت مؤثرات فنيّة اسمها أزيز الرصاص,أمّا الكومبارس فكان فاعلا وصانعا للحدث هذه المرّة بسلاح حقيقي ,وليس بسيوف خلّبيّة وخشبيّة ,تحفظ في مستودعات المسرح بانتظار عرض جديد.
السيناريو كتبه أكثر من قلم مسموم ,إلاّ أنّهم غفلوا هذه المرّة عن عاشقين يخرجان من النص ويرتجلان …. فعوقبا بإقصائهما من مسرح الحياة ,لأنّ صنّاع الحرب وتجّارها يحبّذون رائحة البارود على رائحة الورود.
جاءت الجسور عبر التاريخ للوصل والتواصل بالمفهوم المادي والمعنوي ,وهي قديمة قدم التوق نحو الآخر.
الحبال الطبيعية المتدلّية من الأشجار الضخمة في الغابات جسرا تنتقل منه القردة قصد التسلية وتأمين قوت أبنائها وربما الاستعراض أمام من يشاهدها من فصائل أخرى.
أمّا الأسطورة (طرزان) فكان يفعل ذات الشيء بصرخته المدوّية ,لعلّه تعلّم ذلك الفن من التي أرضعته صغيرا )…ولقد كان أيضا جسرا بين البشر والحيوان ,ودعوة صريحة للصداقة بين الكائنات الثلاث التي يجب أن تزيّن كوكبنا الحزين.
للجسور قصص وحكايات تجمع بين الفرح والطرافة من جهة وبين الألم والأسى :فهذه أحد الجسور التي تمتطي نهر الراين في ألمانيا ,يعتليها العشّاق من مختلف العالم ويضعون على قضبانها الجانبيّة أقفالا من ألوان مختلفة ينقشون عليها أسماءهم ,يرمون المفاتيح في المياه ليعودوا إليه بعد زمن كرمز للتفاؤل بحياة سعيدة….ومن بينها الجسر الأشهر الذي استوحى منه رائد الانطباعيّة (مونش) لوحته الأشهر والمسمّاة ب(الصرخة).
أمّا جسور مدينة قسنطينة فلا أظن من يغازلها ويحاورها ويمجّدها مثل الكاتبة أحلام مستغاني.
إنها أقواس قزح ترتفع إجلالا لشهداء ثورة التحرير من الذين قضوا في تلك الأودية السحيقة .
لكنّ جسور نهر(التايمز ) الشهير قد تبرّعت بشهرتها لذلك النهر ,فترى السياح يتقرّجون عليه من فوق دون الانتباه وحتى السؤال عمّن صمّم هذه التي تقف عليها أقدامهم.
هذه حال الجسور على كل حال :الإسمنتية منها والبثرية في عصر نكران الجميل ….لكنّ الإنكليز يقتسمون مع الفرنسيين جسرا مائيّا آخر من نوع خاص ويشبه المعجزة …إنّه نفق المانش .
أمّا الجسر الذي أصبح نجما تلفزيونيّا بفضل المسلسلات التركيّة وسرق الأضواء من (مهنّد) فهو جسر استنبول الخلاّب الواصل بين قارتين ,وبكلّ ما يحمل من دلالات ومفارقات سياسيّة وثقافية…كما هو حال الجسر الذي يربط السعوديّة والبحرين.
من المستحيل أن تتجوّل في القاهرة دون أن تسمع كلمة جسر6اكتوبر …بالمناسبة بنيت القاهرة على يد المعز القادم من تونس ,وإلى يومنا هذا لم ينقطع التواصل مع مصر بفضل ذلك الجسر الثقافي .
وكان لي مع هذا الجسر حكاية طريفة,فقد جاهدت على نفسي أن أتحدّ ث ب(المصري)مع السائق فقلت له :جسر 6أكتوبر يا أسطى (ونطقتها بالجيم القاهريّة)فأجابني أنت مش مصري يا باشا,عشان اسمو كوبري مش جسر.
أمّا الجسور التي تثير الألم رغم بهائها فجسر الكرخ في بغداد الذي يروي ألف مأساة ,ولعلّ منها تلك الضحايا التي سقطت من فوقه إثر تدافع في أحد المناسبات الدينية.
أمّا الجسور أو(القناطر)التي يمرّ من تحتها نهر السين الفرنسي فتبدو ذات خصوصيّة فرنسية وسمّى أحدها ب(ميرابو)خطيب الثورة,لكنها تناست عشرات الجزائريين الذين ألقي بهم قربانا لنهر السين في خمسينات القرن الماضي,وكذلك قبل قرون حين ابتلعت مياهه الآلاف أيام الملكة (مارغو) في الحرب الأهليّة بين الكاتوليك والبروتستانت…ويبقى جسر(أفينيون) هو الأروع لأنه يعيش على إيقاع المسرح.
يخطر في مخيّلتي أنّ الجسور محاولة للطيران دون أجنحة والسباحة نحو الضفّة الأخرى دون بلل.
أمّا أروع الجسور فهي تلك التي لا تصنع بالحجارة والإسمنت …إنها المحبّة.