حول العالم في ثمانين حديقة
حول العالم في ثمانين حديقة…أعترف أنّ لديّ عشق أزليّ وخرافيّ للحدائق العامّة في كل مدن العالم ,أحبّ فيها ممارسة الأكل والشرب والقراءة والكتابة والتأمّل والتسكّع –وحتى أخذ إغفاءة قصيرة في أحيان كثيرة والرياضة قليلا ….كيف لا وهي ليست ملكا لأحد…
ما حططت عصاي في مدينة إلاّ وزرت حدائقها قبل متاحفها وفنادقها , لعلّه إحساس يرافقني منذ الصغر ,وهو أنّ الجنّة في مخيلتي هي عبارة عن مجموعة حدائق عامّة….ومن مختلف أنحاء الكون…..وربّما لأنّ أوّل موعد عشق في حياتي كان على مقعد في حديقة شهيرة تسمّى (البلفيدير )في تونس.
كانت ولا تزال تلك الحديقة القديمة منذ أيّام البايات الذين حكموا البلاد في القرون الغابرة , تضمّ المسنّين من الأشخاص والأشجار والحيوان …..إلى جانب مختلف الفئات الاجتماعية والعمريّة.
هي مكان لا يطلب رسم دخول ولا يشترط بدلة (سموكن) أثناء الدخول,إضافة إلى أنّه أعلى سقف يمكن لك أن تقف تحته وتتنفّس فيه هواء مجّانيّا ونظيفا.
ساقتني الأيام وقدماي إلى حدائق كثيرة في هذا العالم الذي لا يشبه الحديقة, فوجدت نفسي يوما في حديقة (لوكسمبورغ)الباريسية الشهيرة.
جلست على مرمى قريب من السوربون والحي اللاّتيني والقصور العريقة التي تحولت إلى مؤسسات وطنية ,شاهدت أعراقا مختلفة يتحدّثون الفرنسية بلكنات بلادهم الأصلية وأدركت أنّ الإنسان لا يمكن له أن يشعر بالغربة وسط الغرباء.
دخلت حديقة ال(هايد بارك) الرهيبة في لندن ,كنت صامتا ومتوجّسا دون سبب ,كان الجميع يعتلي مسرح الشتائم دون سؤال عن الجمهور,كانوا يتحدّثون ويصرخون ويلعبون ويهرّجون غير خائفين.
(قل ما تريد ونحن نفعل مانريد)…هل حقّا هذا هو قانون الديمقراطيات الغربية ,أم أنا واهم ومشكّك ….مثل غالبية بني جلدتي.
لا تكفي ساعات قليلة على مقعد في هذه الحديقة لحلّ المعادلة والإجابة عن هذا السؤال….هيّا,سأمضي إلى حديقة أصغر حجما,أكثر أمانا وأقلّ شتائم ,قبل أن تقودني قدماي –غصبا عني-إلى اعتلاء هذا المسرح الفضائحي….وتكون الكارثة.
أمّا عن حدائق الهولنديين فمعرض دائم لأشهى الورود القادمة من كلّ أصقاع الأرض وكأنها جاءت إلى أمستردام ولاهاي تطلب اللجوء (النباتي).
أغرب ما شاهدته يوم العطلة الأسبوعية في حديقة برلين الكبرى والتي تقع إلى جانب المستشاريّة الألمانية ومبنى دار ثقافات العالم هو انبعاث أدخنة شواء الكباب والشقف ,سألت صديقة عن ذلك فأجابت بأنّ أغلبيتهم من الإخوة المهاجرون الأتراك ,يمارسون هوايتهم الأسبوعية المفضّلة في (الباربكيو).
كانت هذه مسحة سريعة عن حدائق الغرب ,أمّا عن الحدائق في مشرقنا العربي فلها نكهة أخرى تختلف –بالطبع-عن الهايد بارك وغيرها,إذ يبيعون فيها كلّ شيء ,بما في ذلك النكت كما هو الحال في مصر الشقيقة (النكتة بجنيه).
لكنّ لجنينة الصنايع في بيروت وحديقة السبكي في دمشق طعم خاص في ذاكرتي,فالأولى يدمن عليها البيروتيون كل صباح وقد صارت أشبه بمتحف من الحكايات وخلّدها المسرحي روجيه عسّاف في إحدى مسرحياته ,أمّا الثانية فتتربّع بين حي الشعلان وحي الروضة ,تطلّ على ساحة عرنوس وتقترب من الصالحيّة…إنها تكاد تختصر مدينة دمشق الحديثة.
تتذكّر مقاعدها ألاف العشّاق ,منهم من فشلت قصة حبه وكنّسها عمّال التنظيف ,ومنهم من عاد ليلاعب أطفاله على الأرجوحة الصغيرة والوحيدة.
أمرّ من أمامها الآن وقد نزعت تلك الحواجز الحديديّة التي كانت تطوّقها وتخنقها ,أراها أكثر احتضانا للناس وإن عكّرت السيارات صفو هدوئها.
إنها رئة أخرى لدمشق الحنون (المدخّنة بشراهة )…والتي احتضنت عربا كثيرين,من بينهم الشاعر والصديق العراقي الراحل آدم حاتم والذي كنا نجلس سويّا هنا ,فيقلع العشب بقبضته حين يستبدّ به الشعر والغضب والسكر .
نعم,كان ولايزال المشرقي والمغاربي يلتقيان في دمشق مثل كتاب تطبق فيه الصفحة اليمنى على الصفحة اليسرى.