صنعوا الأبطال، واكتفوا بدور الكومبارس
صنعوا الأبطال، واكتفوا بدور الكومبارس … هم شيء من كبريائي الخجول, هم بضعة منّي …هم جماعة من الذين صغروا في الصفحات المزوّقة بماء الذهب، لكنهم يكبرون في حاشية الكتب .
احتار التاريخ في تصنيفهم … ولم يأخذهم القرّاء على مجمل الجد…. بل على آلة حدباء محمولين في أغلب الأحايين.
الهامشيون قالوا كلمتهم قبل وبعد أن يقولوها … ودون أن ينصت الناس إلى كلامهم، ذلك أّن ّأصواتهم كانت مبحوحة بفعل الضجيج والتدخين .. والتشويش الذي مورس ضدهم….. ومن كثرة ما صرخوا في الزحام.
الهامشيون هم لحم الرقبة التي تؤكل ثمّ تذمّ .. هم الديدان التي تصاد بفضلها أغلى الأسماك وأنفسها … ثم تنسى لحظة إخراج الصنّارة من المياه العكرة …. وهكذا دواليك … لحظة البحث عن شواء جديد.
الهامشيون هم نحن حين لا تقولنا الكتب ولا مانشيتات الجرائد ولا العناوين الكبرى في الشاشات … هم نحن الذين مشينا فوق الجمر دون أن ينظر أحد إلى أقدامنا الحافية.
جمعنا الدقيق من فوق الأشواك –في يوم ريح- دون أن ينظر أحد إلى أناملنا الدامية… أو في عيوننا التي تحجّرت الدموع في أحداقها.
الهامشيون قوم افترشوا الأرض والتحفوا بالسماء، مدّوا أياديهم نحو النجوم، قطفوها، دسّوها في قلوبهم … فلمعت في لحظة غضب.
الهامشيون قوم لا يحبون المشي في الطرقات المخصّصة للدواب المعدنيّة…اكتفوا بالسير على أرصفة الحزن والذكريات … وراقبوا قاتليهم بعيون صريحة وفصيحة.
شخصياً، اخترت الرصيف ” فضاءً ثقافيّاً ” وسمّيت فرقتي المسرحية باسمه خوفاً وتجنّباً للغة المراسم …وكل ما يعرض على الواجهات، لأنّ الأخيرة مضلّلة دائماً وبالضرورة.
اخترت الرصيف لأنه طريق الأقدام المتعبة التي تهرب من تحتها الطرقات والمكان الأفضل لمشاهدة هذا العالم المزدحم بالنكات السمجة.
ألقيت برخصة السياقة في النهر، بعت سيارتي، حملت ابني على كتفي … وانطلقت عكس اتجاه السير.
لم يزعجني إلاّ دخان السيارات وزماميرهم …. ولم يسدني إلاّ ابتسامات الناس الذين أصادفهم على الرصيف والدعاء لإبني بالصحّة وطول العمر.
كان ابني أطول مني وهو يرتاح فوق كتفي … وكان يرى العالم من فوق مثل بحّار مخمور، يقضم تفّاحة ويلقي بها في عرض البحر …. فتمسي جزيرة من الفرح.
الهامشيون هم قوم فقدوا القدرة على الكراهية ونصب الأفخاخ، تركوا الطريق لعبدة الطريق وعبّاده… واكتفوا بالرصيف ملاذاً آمناً وأخيراً.
لم يقل لنا أحد (شكراً)، لكننا قلنا شكراً لكل الناس، لم يربّت على أكتافنا أحد، لكننا بكينا لبكاء كل العالم ولن تجفّف دموعنا إلاّ نسائم الصباح الواعدة ..
نحن ذوي الأحذية المعفّرة بالغبار والشعور المنكوشة والبناطيل الكاحتة والدموع المحبوسة في المقل … لم نجد من يقول لنا (عمتم صباحاً) هذا الصباح….. نعطس فلا يشمّطنا أحد، نسعل فلا يقول لنا (صحّة أحد).
أحببنا نساء حتى طلّقناهم فلم يدر أحد، تزوجنا فلم يبارك لنا أحد….. صدمتنا سياراتهم المعتدية على أرصفتنا فلم يسعفنا أحد.
كم مرّة يجب أن نموت وكم مرة ينبغي أن يعيشوا…!؟… كتبنا الشعر فحاصرونا بدور النشر والطباعة، كتبنا المقالة فحاصرونا بالصفحات المخصّصة للإعلانات…. مشينا على الرصيف فاحتلّته الواجهات.
أيها الرصيفيون كفّوا عن المشي والتسكّع والاسترزاق مرّة واحدة في العام… ثمّ انظروا إلى ما سوف يصير عليه العالم. مدينة بلا عشّاق، مدينة بلا محتاجين ولا متصدّقبن، مدينة بلا شعراء، مدينة بلا رياضة أو مشاة، مدينة بلا نعوات ولا لافتات ولا أعياد، مدينة بلا أحذية تلمّع ولا من يحزنون… ما قيمة مدينة بلا أحزان…!؟.
الهامشيون أغنوا الثقافة عبر التاريخ، أسقطوا في الماضي حكومات روسيا القيصريّة وفرنسا الملكية … وهاهم يقولون كلمتهم في الشارع العربي الحانق وخارج البرلمانات المخمليّة .
لذلك – ولأجل كل ما تقدّم- أسميت فرقتي المسرحية بـ(مسرح الرصيف) وكتبت في بيانها التأسيسي العبارة التالية – وبكل اللغات- (إلى أصدقائي الرصيفيين، الطيبين منهم والأوغاد، الأحياء منهم والأموات، أكرهكم….. أنتم الذين دفعتموني لارتكاب فاحشة الكتابة…. شكراً لكم.
عاشت الأرصفة، عاش المشاة والمترجّلون .. والذين مازالوا يقطعون الطرقات مذعورين مثل “فئران من نوع خاص”.