طوابع ماليّة من نوع خاص في تونس
نعم إنها طوابع جبائية يشربها التونسيون ويدخّنونها كل يوم، بل وتباع في الأسواق السوداء فيقبل عليها المواطنون – ثم المواطنات – بلهفة وغزارة وشراسة لا توصف…هل شاهدتم تزاحما هستيريّا في طوابير طويلة أمام شبّاك لبيع الطوابع الضريبيّة ..!؟ .
يحدث هذا في تونس كل يوم، بل وفي كل لحظة، وتزداد ذروته أيام الجمعة والأعياد الدينيّة أمام (شبابيك ماليّة) خاصة، ألا وهي نقاط بيع الخمر المرخّصة وغير المرخّصة .
أمّا ثاني الطوابع الضريبية الأكثر رفداً وسخاء على خزينة الدولة في تونس فهي السجائر وكل أنواع التبغ البريئة منها وغير البريئة، على اعتبار أنّ التدخين في نظر بعض شيوخ الإفتاء : لا حلال ولا حرام، بل مكروه .
لكنّ المفارقة الغريبة هي أنّ الخمرة التي يعتبرها المذهب المالكي السائد في تونس من أكبر الكبائر، حتى ذهبت مثلاً في قولهم :(فلان قال في فلان ما لم يقله مالك في الخمرة) تأتي على رأس القائمة الاستهلاكية لشبه غالبية من التونسيين بكل فئاتهم رغم ما تسبّبه من أزمات اجتماعية وأسرية عاصفة.
تعود ظاهرة هذا الاستهلاك المفرط للخمور في تونس إلى أسباب كثيرة ومعقّدة، تبدأ بنمط الحياة الذي شجّعت عليه السياحة وأرساه الانفتاح البورقيبي بعد الاستقلال وتنتهي عند الأزمات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ، وهي مفارقة عجيبة تشبه ذاك السكير الذي يسكر كي ينسى أنه يسكر في كتاب (الأمير الصغير) لمؤلفه الطيار الفرنسي الذي عاش في شمال افريقيا حقبة الاستعمار وهو(سانت اكزيبري).
تحدّى التونسيون نظم منع التدخين في الأماكن المغلقة، لاسيما الحانات الشعبية التي تشبه حمّامات البخار، وشجّعهم على ذلك وفرة السجائر المهرّبة بأسعار رخيصة من الجزائر أخيراً، كـ(ثمرة من ثمار ثورتهم ) أثناء حالات الفوضى والإنخرام الأمني وعدم قدرة – أو رغبة – الحكومة في لجمها … وربما لغاية في نفس النظام الجديد الذي يسعى لحل مشكلة البطالة ببطالة مقنّعة.
أمّا الملفت للانتباه في كل هذا فهو تمادي الحكومة في رفع أسعار الخمور (التي تكاد تحتكر الدولة صناعتها وتوزيعها ) بشكل مجحف وعلى عدّة مرّات في العام حتى قارب سعر الزجاجة العادية من النبيذ العشرين دولاراً، يحدث كل هذا تحت صمت مريب وتعام واضح من الصحافة ووسائل الإعلام التي تخشى الانزلاق نحو موضوع شبه محرّم في بلاد يحكمها الاسلاميون ويحاولون تطويعها إلى برنامجهم السياسي ذي المرجعيّة الدينية، وإن حاولوا قول عكس ذلك .
لكنّ الأمر الذي يجهله أو يتجاهله جماعة حزب الغنوشي في تونس هو أنّهم قبضوا على السلطة ولم يقبضوا على المجتمع الذي بقي عصيّا على إرادتهم السياسية ومحاولة تدجينه من خلال العزف على وتر الاسلام في بلد من المسلمين بالفطرة والسليقة ….فهل جاؤوا يبيعون الماء في حارة السقّائين…!؟.
هكذا تحاول الحكومة في تونس أن تعالج اخفاقاتها الاقتصادية المرعبة وتسعف خزينة الدولة المنهارة عبر الرفع من أسعار الخمور والتبوغ في سياسة اقتصادية بائسة: أقلّ ما توصف به هو الابتزاز الديني والعاطفي والأخلاقي مستندة في ذلك على مبدأ (إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا ….وتستّروا عن الاحتجاج ).
لم نعهد خروج المتعاطين للخمور في مسيرات واعتصامات في بلاد عربية اسلامية، بل لم نعهدها أصلا إلاّ فيما يخصّ رغيف الخبز، أي الصمّام الأوّل للكرامة البشرية، لكنه ليس الأخير، فثورتنا ثورة حرية أيضا وصرخة في وجه الدكتاتورية التي أدانها العلمانيون في قمعها للإسلاميين، بل ومنهم من دخل السجن مساندة لخصومهم في الرأي ومحاربة لأعداء الحرية والكرامة، شتان إذن بين من دخل السجن حلماً بالحرية ومن دخله حلماً بالوصول إلى الحكم ومن ثمّ قمع الحريات.
نعم…هكذا تشرب فئة كبيرة من التونسيين وتدخّن كل يوم (طوابع ماليّة) مجحفة وتدفع للحكومة بضرائب ظالمة لإنقاذ عجزها ثمّ تدان أخلاقياً واجتماعياً أمام صمت وتواطؤ نسبة كبيرة من مدّعي الكلمة الحرّة وناشطي حقوق الإنسان …أليس في الأمر ظلم ثار على مثله التونسيون ..أم أنّ الحقيقة عذر باهت دائما ؟
*كلمة في الزحام :
هل ينبغي لنا أن نتذكّر اليوم الطرفة الشهيرة التي حصلت في تونس أيام حكم بورقيبة حين رفع من سعر الخبز بذريعة رميه في القمامة ثم تراجع تحت ضغط شعبي وعمد إلى رفع أسعار الخمور، عندها قال له أحد الظرفاء: (هل رأيتم يوما زجاجة خمر مختومة ومرميّة في القمامة يا سيادة الرئيس ..!؟ ).