غزوة الديمقراطية
غزوة الديمقراطية … يقول حكماء العامّة وظرفاؤها ” إذا أردت أن تحيّر أحدهم فخيّره ” ….
هذه ديمقراطية تونس في امتحانها العسير والمتعثّر، جعلها الحالمون نجمة صبحهم ويراها الثوريون قيداً ينكسر، ليلاً ينجلي ومارداً ينهض من رماد الظلم وينتقم لسنوات الجمر .
يهلّل لها المتفائلون طفلة واعدة، تنطلق كالفراشة، تلثم الزهور وتبشّر بالربيع الأزلي .
يتحفّظ عليها المتردّدون، يشكّكون في جنسها، يستمهلون في تسميتها ويرون في التأنّي السلامة والعجلة الندامة .
يتطيّر منها المتشائمون والمتسربلون بالسواد فينصحون بوأ دها قبل أن يتكوّر جسمها وتجلب العار لقومها، وقد شبّب بها فتيان المضارب المعادية . اختلفوا في هيئتها بين السفور والحجاب والنقاب، بين تشريقة وتغريبة، بين لزوم بيتها أوالخروج إلى المدرسة والحقل والمصنع …وحتى الهجرة السريّة إلى الضفة الأخرى عبر المراكب المتهالكة .
….. لكنها ولدت.. حقاً. ولدت وسمع الجميع صيحتها الأولى، ليس من سفاح أو وهم أو معجزة أوحمل كاذب …
لم تولد الديمقراطية التونسية ميتة ولا معتلّة ولا مشوّهة، بل بملامح هذا الشعب النزق الطيّب البسيط وطريقته في الفرح والغضب …في الصبر الطويل والانتقام السريع.
لم تولد متعلّمة ولا ناضجة ولا مسنّة تستعجل السير من مهدها إلى لحدها، بل طريّة ناعمة …والنتيجة في عهدة الأيادي التي ستشكّلها والأحضان التي ستمنحها دفئها أو شوكها .
لكنّ حديثي العهد بالديمقراطيّة الناشئة يفهمونها على أنها طريق إلى الحكم قبل أن تكون طريقة في الحكم، فتهافت عليها الجميع وكأنها غنيمة الثورة التي عليهم “هبشها” بعد سنوات الجوع والعطش .
يتنافس في هذه “الغزوة الديمقراطية ” التي حمي وطيسها كل من هبّ ودبّ، كل من “تسوّل” له نفسه الفوز بمقعد تحت قبّة البرلمان وحتى الجلوس على كرسي “قرطاج الرئاسي” الذي لا يتسع لأكثر من مؤخرة واحدة .
كان الشعب في الأمس القريب يحسب أنّ ضاحيتي “باردو” ـ حيث يقع “مجلس الشعب ” ـ و”قرطاج” ـ حيث يقبع رئيس الشعب ـ منطقتان لا تنتميان إلى البلاد التونسية ….وكنّا نتجنّب مجرّد المرور أو النظر إليهما من بعيد وقد سيّجتهما الأسلحة والكلاب ونظرات الحرس الحاقدة .
كنّا صغاراً، وكانت عبارة التطاول والتحدّي في قاموس شتيمتنا الفقير تتمثّل في قولنا لمن لا يعجبنا ” من تحسب نفسك؟ عضو برلمان أو رئيس ؟! ” .كان الذهاب إلى صندوق الاقتراع واجباً مثل العزاء وأحياناً فرصة للقاء الأقارب ومن تجمعنا بهم نفس الخانة في دائرة النفوس.
كانت تضحكنا سواتر الخلوة الشفّافة و”المعارضة المنصّبة ” والحملات المسعورة التي يقيمها الحزب الحاكم مثل من يلاعب نفسه “البرسيس” . صرنا بعد “البوعزيزي ” وضحاه لا يهمّنا ولا يثيرنا أي شيئ ما عدا السياسة.. و”مستقبل البلاد” الذي أمسى حديث مقاهي المعطّلين و “مازة ” الحانات وسبب الطلاق والزواج.
كادت الجهات الرسمية أن تصدر قوائم في أسماء الذين لم يقدّموا ترشحهم للانتخابات البرلمانية والرئاسية …وتشكرهم على رباطة جأشهم وانتصارهم على غرائزهم في حكم البلاد.
فتحت أبواب الخيال المكبوت على مصراعيها في البيانات الانتخابية وشهدنا نوعاً من الفانتازيا الديمقراطية تأرجحت بين من يريد أن يبلّط طريقاً فوق البحر بين تونس وأوروبا ـ ربما تفادياً لحالات الغرق الجماعي ـ وبين من يدعو الشعب إلى الحسم في مسألة وجود الذات الإلهية …وصولاً إلى مرشحة رئاسية تدّعي أنها تفك السحر، وتكشف عن الكنوز، وتعالج الفالج وتشفي من الشقيقة والعقم والعجز الجنسي وسرعة القذف …
هل سمعتم بقصّة العميان الذين جاءهم مولود ففقئوا عينيه أو كادوا من كثرة اللمس و”التمجيق” والملاعبة …
كلمة في الزحام:
لا بأس، سنكبر يوماً، ونتجاوز سن الحضانة ونقصد المدرسة دون مرافقة الأهل ..لكنّ الأهم من ذلك كله أن نتخرّج …والأهم من التخرّج هو العمل …والأهم من العمل هو كسب الحياة وعيشها بكرامة .