في أبدهِ… ويومه
في أبدهِ… ويومه… أذكر أنني قرأت في الصحف خبراً مفاده أن رواية للشاعر عادل محمود قد حازت على المرتبة الأولى في جائزة “دبي “الثقافية للإبداع في الرواية وذلك في دورتها عن عامي 2006 – 2007 وأن الرواية صدرت في دبي عن دار “الصدى”. لم تسمح لي الظروف بالحصول على هذه الرواية وقتها، ومضى زمن قارب العشر سنوات حتى علمت أن الرواية قد أعيدت طباعتها في “دار التكوين” السورية عام 2017، ولم أتمكن من الحصول على نسخة منها بسبب وجودي خارج القطر إلا أن الشاعر عادل محمود وعدني بالاحتفاظ لي بنسخة عنها حين أعود إلى دمشق.
حصلت على نسختي وشعرت من خلال تصفحي لها أنني سأكون رفيق مغامرة أدبية لشاعر تميز في شعره وجاء ليخوض غمار الكتابة الروائية. كنت قد قرأت قرابة خمس وثلاثين صفحة حين توقفت عن القراءة وأنا أشعر بشيء يعصر قلبي وروحي، وتدفق شلال من الذكريات جرفني إلى سنوات الشباب والجامعة وانكسارات الروح في علاقات حب كانت الروح تبحث فيها عن نضج مازال بعيداً عنها.
كان توقفي عن قراءة هذه الرواية فرصة للتأمل في عنوانها “إلى الأبد…ويوم”.. وألح عليّ السؤال عن أي أبدٍ وعن أي يوم يقصد عادل محمود في روايته هذه. عدت إلى قرائتها مجدداً ووجدتني أسيراً لصفحاتها أغوص في عوالم هي نوع من السيرة الذاتية للشاعر مغلفة بخليط غريب من السرد والقص والوصف واللغة الشاعرية. اكتشفت فيها أنها نوع من التداعيات المتباعدة زمنياً مربوطة بخيط خفي ينوس بها بين حاضر وماضٍ..بين الآن والذاكرة.
يكتشف القارئ في هذه اللعبة مقدرة متميزة لكاتب يخوض لأول مرة غمار الكتابة الروائية تساعده فيها لغته الرشيقة وإمساكه المحكم بتاريخه الشخصي. في لحظات عابرة انتابني خوف من إغراق العمل بتفاصيل علاقة الكاتب بأقرانه من أسماء كتاب وشعراء عاصرهم وهم من أكثر الأسماء شهرة في تاريخ سورية الأدبي الحديث، إلا أن براعة الكاتب استطاعت ان تفلت من هذا الشرك لتجعل من هذا الجانب قطعة تنسجم مع فسيفساء العمل وهو ما أكد لدي انطباعي المبدئي عن ذلك الرابط المحكم الذي أشرت إليه.
أعود إلى السؤال الذي ألحّ عليّ حول العنوان، حيث لم أستطع الحصول على الإجابة عنه إلا بعد أن أنهيت قراءة الرواية . بعد أن ابتعدت عن الرواية بضعة أيام، أخذت أتأمل في تفاصيلها عن بعد، فلم أعد أحمل النص بين يدي ولا تعانق عيناي صفحاته.
اكتشفت من خلال تأملي أن النص يجول في الذاكرة كما في الحاضر وفي تجوله هذا يقدم تفاصيل ذاكرة هي في الحقيقة ذاكرة جمعية بقدر ما هي فردية، ونجد في تلك التفاصيل نوعاً من الأبدية المكانية والروحية بمعنى أنها غائرة في قدمٍ يبدو أنه نوع من الأبد. ويجد القارئ أنه معني بالكثير من هذه التفاصيل التي يجد صداها في تاريخه الشخصي، ومن هنا وصفت هذه الذاكرة بأنها جمعية. هناك العديد بل الكثير من التفاصيل في هذا العمل يقدمها الكاتب ويصفها بأنها هي كما هي منذ أن تشكل وعيه بالأشياء ولم تخضع لعوامل الزمن.
على الجانب الآخر، هناك البشري الذي هو آني ومتبدل وخاضع لعوامل الزمن وينوء بمتغيراته على الصعيد المكاني والنفسي، وعلى صعيد علاقاته المتبادلة مع الآخرين ومع ذاته وتاريخه الشخصي. هنا يتبدى اليوم في أكثر تجلياته سطوعاً.
إلا أن هذا التقسيم الذي ذكرته ليس إلا تقسيماً توضيحياً لمقاربة العنوان، وسيجد القارىء في النهاية أن هناك تواشجاَ عميقاً بين هذين الخطين، وكما نوهت في مطلع هذا المقال إلى أن هناك خيطاً خفياً ينوس بالنص بين ماضٍ وحاضرٍ، وبين الآن والذاكرة. إن اللعبة الماهرة تلك يختتمها الكاتب بعودة صوت “كسارة البدق” في الصفحات الأخيرة من الرواية بـأسلوب يدمج فيه عودة ذلك الصوت “الساحر” ضمن مناخ وتفاصيل أكثر الأمكنة المعبرة عن تلك الأبدية التي تحدثنا عنها في مشهد من أروع مشاهد الرواية.
في أبده…ويومه يحلق عادل محمود في نص من أجمل النصوص الروائية في أدبنا المعاصر مثبتاً أن للشاعر قدرة على اقتحام السرد الروائي بقدرة إدهاش الشعر وهو يمتلك قدرة الإدهاش الروائي بجمالية خاصة لا تشبه أي عمل آخر على الأقل فيما قرأت من أعمال روائية محلية وعربية وعالمية.