كان شاعراً
كان شاعراً.. من أجمل ذكرياتي عن مرحلة دراستي الجامعية في دمشق تلك الذكرى عن علاقتي الشخصية بالدكتور أمجد طرابلسي القادم من باريس حيث قضى هناك ما يقارب الثمانية أعوام و عاد بشهادة دكتوراه دولة بين نهاية الأربعينات و بداية الخمسينات ليغدوا مدرساً لمدة عام واحد أولاً في المدارس الثانوية أي في ” تجهيز البنين الأولى” المسماة اليوم ” ثانوية جودة الهاشمي ” و تشاء المصادفة أن يصير أستاذي في تلك المدرسة في مادة اللغة العربية وأدابها وأن نعشق حضوره وأسلوبه الحديث في التدريس في مرحلة البكالوريا وأن نودعه في حصة إحتفالية خطابية ألقيت فيها قصيدة مديح بالأستاذ لا أذكر منها الأن سوى هذا البيت :
يفنى الزمان و في القلوب تربعت ذكراك تهزأ بالزمان و تخلد
وبهذا السياق نشأت بيني و بين الدكتورأمجد طرابلسي علاقة ودّ وتقدير، و حين لاحظت أن أستاذنا المشهور أصلاً كشاعر في مرحلة صباه أنه ترك نظم الشعر نهائياً مما دفعني حين شاركت في معرض الرسم الجامعي بمجموعة الرسوم الكاريكاتورية لأساتذتي و بعض رفاقي ورفيقاتي، وكانت لوحة الدكتورالطرابلسي من أبرز المجموعة إذ رسمته بجمجمة ضخمة لرأسه وقامة رقيقة قصيرة بإسم الأستاذ فوق رأسه و بعبارة :
” كان شاعراً ” في أسفل الصورة، و قد شاهدها الدكتور أمجد وضحك يومئذ وهو يقول : ( صحيح … كنت شاعرا … و صرت معلماً ).
لم يبقى هذا الأستاذ الكبير و الشاعرالمجدد طويلاً في جامعة دمشق إذ غدا وزيراً للتعليم في إحدى المراحل، ثم لم يلبث أن غادر البلاد حيث قضى بقية خدماته التعليمية في إحدى جامعات المغرب الكبرى وأشرف على تخريج عدد وافر من حملة الدكتوراه في اللغة العربية و آدابها بدرجات رفيعة في المعرفة ، والنقد الحديث، والتذوق الجمالي للأدب و الفنون …
ومرت الأيام والسنون وكدنا ننسى إلا المعاناة التي عرفتها البلاد بعد الإنقلابات العسكرية المتعاقبة، وإذ بالبريد يفاجئني ببطاقة لطيفة بتوقيع “سامي طرابلسي ” إبن الدكتور أمجد والمقيم في باريس جاء فيها:
( إلى الأستاذ شوقي بغدادي
بكثير من الإنفعال والتأثر قرأت مقالكم في جريدة ” تشرين ” عن ذكرياتكم مع والدي العزيز و جواباً لإشارتكم اللطيفة والتي كان قد رواها لنا الوالد عن معرض الصور الكاريكاتورية ، فاسمحوا لي بأن أرسل لكم طيه كتابه الأخير “كان شاعراً ” تصديقاً لعبارتكم في رسمه وذكرى من صديقكم المرحوم … وتفضلوا بقبول جزيل شكري وإحترامي
سامي )
أقول كل هذا كي أخاطب طلاب الجامعات العربية جمعاء وأساتذتهم عن ضرورة رفع مستوى التعليم الجامعي المتدهور ثقافياً وإنسانياً إلى مستوى ذلك الزمان الذي عشناه، و الذي كما يبدو قد عدمناه إلى الأبد ….!…