أمومة وأوطان وأسماك
أمومة وأوطان وأسماك.. غريب أمرها سمكة السّلمون، محيّر ومدهش إلى حدّ الإعجاز، تقطع آلاف الأميال في أعماق البحار والمحيطات، تغالب التيّارات والأعاصير، تجازف أمام شبكات الصيّادين ولا تقتات إلاّ بما تزوّدت به في أوّل الرحلة لتعود إلى مسقط رأسها عند فروع ومنابع الأنهار التي انطلقت منها، تضع بيوضها في المكان الذي ولدت فيه بدقّة بالغة ثمّ تموت.. ويفتح الأبناء عيونهم وهم يرقات على جثمان أمّهم وقد أدّت رسالتي الأمومة والوطن بأسطرة ساحرة.
يحدث هذا الأمر منذ آلاف وملايين السّنين دون أن يضطرّ سمك السلمون أن يكتب قصائد في تضحيات الأم أو ينظم أناشيد في (غلاوة) مسقط الرأس، يحدث هذا في غياهب البحار وتحت عيون الله قبل مجاهر العلماء.
مهما اعتدنا المشاكسة على المفاهيم والمسلّمات كلّما أمعن الآخر في احترامها وبالغ في تقمّصها إلى درجة الاستعراض والفذلكة فلن نتجرّأ يوماً على مفهومي الأمومة والوطن، لا لخوف أو مسايرة بل لرهبة سكنت روحنا… روحنا التي ولدت عارية إلاّ من كساء الأم والمكان.
أعترف أنّي كنت أوسوس لنفسي أحيانا هامسا: أغلب هؤلاء الصبايا من محتشمات ومتبرّجات سوف يصبحن يوماً أمّهات بمنطق الطبيعة وسنّة الحياة وبفضل آباء معروفين أو مكتومين وعن رضاء أو اغتصاب.
هل للغيلان والطغاة والأوغاد أمّهات؟!هل تهدهدهنّ وتحنّ وتضحّي لأجلهنّ؟!
هل أنّ غولدامايير وتاتشر وغيرهنّ من اللاّتي ذقنا منهنّ الظلم والقسوة كنّ أمّهات يحتفي أبناؤهنّ بعيدهنّ ؟! هل كان لديهنّ الوقت الكافي؟!
ما حقيقة أنّ أنثى طير حقنها علماء بمادّة عضويّة من أنثى أخرى لها فراخ فصارت تحنّ عليهم تماماً كأمّهم وربّما أراحت الأخيرة من عناء تدبير قوت أطفالها!!؟
ما حقيقة (المابا) أو امكانيّة التوصّل إلى زرع رحم حاضن في بطن رجل كما قرأنا في صفحات المجلاّت؟! هذا عداك عن السّماح للمثليين في هولندا بتبنّي الأطفال.
ما حقيقة قصّة الأغنية العراقيّة التي ترفض فيها الأم إرضاع طفلها لأنّه لم يأت من صلب حبيبها الذي حرمت منه…أغلب الظنّ أنّ كاتب كلماتها رجل جاهل بالأمومة.
سرعان ما انجلت من فوق رأسي هذه الأسئلة السوداء عندما لمحت هذا الصّباح طفلة تحضن دميتها في طريقها إلى الحضانة ترافقها أمّها الحامل و خلفها جدّتها التي لم تكن حاملا ,
أحببت هذا (القطار الأمومي) الرائع وتذكّرت كيف كنت أكره المدرسة في طفولتي بسبب مدرّس جلاّد، و أذكر أنّي قلت لأبي متحجّجاً: سأبقى إلى جانب أمّي لأنّهم قالوا لي في تلك المدرسة البعيدة: (الأم مدرسة، دعني يا أبي أكتفي بمدرسة واحدة).
لم يكن أبي ـ المتعلّم ـ يمانع في تركي مقاعد الدراسة ولكنّ أمّي–الأمّية ـ هي التي استشرست في إعادتي إلى (أمّي الثانية) وهمست لي: أريدك أن تتعلّم لتقرأ لي تلك الكتب المكدّسة في البيت يا بني.
(بعد الأم احفر وطم): عبارة قالتها لي عجوز جاءت تعزّي بوفاة أمّي، لم تكن تلك العبارة تحمل جرعة من الصّبر والسلوان ولعلّها جانبت حكمة المعزّين في مثل هذا الموقف وزادت من يتمي ولكنّها خفّفت من حرقتي بعد وفاة الوالد.
الآن، كلّما عدت إلى بيتنا البعيد نفضت الغبار عن تلك الكتب المكدّسة في الزاوية وبدأت في قراءتها بصوت عال لعلّ أمّي تسمعها في عليائها فأكفّر عن ذنبي و ذنوب شقيّة وصغيرة في الطفولة حين كنت أقرأ لها من القرآن ليلة المولد أو القدر ما تيسّر من قصار السور مقابل بعض النقود وكنت أغشّ وأستعجل في القراءة كي أخصّص الوقت المتبقّي في اللّعب مع أترابي.
الآن، و كلّما تذكّرت هذه الحادثة هبّت أنفاسها في وجهي نسمة ربيع و أخذتني إلى هناك، إلى بلاد أنبتت مع الزيتون والبرتقال (حنّبعل) وابن خلدون وأبو القاسم الشّابي الذي قال يوما على لسان الأرض:
(فلا الأفق يحضن ميت الطيور* ولا النحل يلثم ميت الزهر
ولولا أمومة قلبي الرؤوم * لما ضمّت الميت تلك الحفر.)
لم تكن أمّي تهتمّ أنّ للأمّهات عيد، ولكنّها من كثرة ما أحبّتني سكنت حفرة في الأرض وقبلت منّي هديّة واحدة هي الفاتحة والتصدّق بثيابها.
*كلمة في الزحام :
…..هل هي صدفة أن يتزامن عيد الأم مع عيد الاستقلال في تونس . .؟!..
سلام على النور يغفو في راحتيك، سلام على الصبح يصحو في مقلتيك… يا بلدي الذي مازال بعيدا عمّا أرادته ثورة شعبه .. ويا أمّي الأبعد..