الذي بين أكتافنا
الذي بين أكتافنا ..أثناء التدريبات، وقعت صخرة ضخمة أمام أسطورة القوّة (هرقل) فسدّت عليه كلّ منافذ النجاة في المغارة، خاطبه القزم الجنّيّ الذي كان يشرف على تدريبه ناصحا بقوله :(استخدم دماغك يا عزيزي هرقل الصغير).
ما كان من هرقل إلاّ أن استجاب لتعليمات مدرّبه في تلك الوضعيّة الحرجة فنطح الصخرة برأسه القويّة لتنشقّ وتتفتّت .. ثمّ تنفتح له مسارب النجاة..
ابتسم المدرّب وفرك بيده على رأسه ثمّ قال: (ليس هذا ما قصدته تماماً…. لكنّه يظلّ مفيدا على كلّ الأحوال).
كان المدرّب القزم يقصد بعبارته ضرورة استخدام الدماغ عبر الحيلة والتدبير، أمّا الفتى العملاق فلم يستوعب رأسه الضخم من النصيحة غير استخدامه كآلة حادّة.
المفارقة الأولى في ظاهرها والعميقة في دلالاتها تتمثّل في أنّ قزماً صغيراً يدرّب عملاقاً مثل هرقل، هزّ أعمدة الهيكل بساعديه عند لحظة غضب وفق الأسطورة المعروفة ..
أمّا العبرة التالية فهي التشابه الظاهري بين الدماغ والرأس ….والفارق الواضح بين تفكير القوّة وقوّة التفكير..
قد يصادف أن يلجأ العقل البشريّ إلى القوّة الماديّة، لكنّ الأخيرة عمياء بالضرورة إن لم تلجأ إلى العقل والتعقّل ….واستخدام ما تحت الجمجمة قبل الجمجمة..
قيل أنّ (ميكيافلّي) صاحب كتاب (الأمير) ومنظّر الفكر البراغماتي النفعي كان يلهو بجوزة بين يديه حين خاطبته الأميرة بقولها :(ما العمل…حين يعجز العقل على حلّ الأمور أيها المفكّر؟)
-نستخدم القوّة يا مولاتي …. وأطبق قويّا بكفّيه على الجوزة التي كان يلهو بها بين يديه في بلاط الأميرة الناعمة..
لكنّ القوّة تدمّر كلّ شيء يا عزيزي ميكيافلّي- قالت الأميرة. .-
– هذا إذا كانت القوّة غير منظّمة يا صاحبة السموّ……… ردّ الفيلسوف، ثمّ أخرج لبّ الجوزة سالما من بين حطام القشرة … وأراه لمليكته وهو يبتسم في حالة انتصار..
ترى، ما سرّ هذا الجدل التاريخي بين سخونة القوّة وبرودة المعرفة والتفكير…. هل أنّ قدر الحلول أن تأتي فاترة بالضرورة ، من يحسم الموقف: بيض الصحائف أم بيض الصفائح…. هل أنّ السيف أصدق أنباء من الكتب….أعد التفكير قليلا يا أبا تمام..
القصّة ليست قصّة عصا وجزرة، والناس ليسوا من ذوات الأربع حتى نرهبهم أو نرغبهم، إنه نداء التعقّل لجميع الأطراف، فالمركب قد يغرق بربّانه وركّابه إن كان الجميع يحبّ القيادة والاستغاثة والصراخ في وقت واحد..
ليس الأمر إسقاطاً أو مقاربة على ما يحدث في وطننا العربي، فالأجدر على المحلّل السياسي أن يسمّي الأشياء بمسمّياتها، وليست وظيفتي في هذه المساحة الضيقة أن أتحدّث في السياسة التي صارت شغل من لا شغل له في هذه الأيام العصيبة ….. حتى صار التونسيون مثلاً، يتندّرون بقولهم في الفترة الأخيرة: (كان لنا في العهد السابق عشر ملايين محلّل رياضي فأصبح لدينا عشر ملايين محلّل سياسي) .
قد تكون أوجه الشبه كثيرة بين السياسة والفوتبول (متنفّسنا الوحيد آنذاك)، فالإثنان تتقاذفهما الأقدام والألسن ويتنافسان على الصدارة في صفحات الجرائد، لكن شتّان بين من يفكّر بساقه وآخر يفكّر برأسه، حتى أنّ أحد رسّامي الكاريكاتير قد رسم لاعباً يمثّل رأسه كرة قدم يركل الكرة الأرضيّة أثناء الحمّى المونديال..
الرأس هو آخر ما يستخدمه الكثير منّا في عالمنا العربي، بعد الأيدي والأقدام والألسن ..
الرأس الذي قدّسته وأكرمته كل الفلسفات عبر التاريخ، صار في أسفل القائمة، وكأنّنا نمشي بالمقلوب، هل أنّ الأمر مجاراة لهذا العالم…؟.
متى يعاد الاعتبار للرأس الذي قال عنه الجاحظ المعتزلي على لسان أحد بخلائه الظرفاء (زبيدة بن خلف) وهو يعاتب غلامه على ديك مشويّ ومقطوع الرأس: (أين رأس الديك أيها الأحمق ؟! , ألا تعلم أنّ الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصيح الديك، فيه الحواس الخمس , ومنها العين التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال شراب كعين الديك…الخ ).
أين الرأس أيها العرب، لقد صرنا لا نشاهد إلاّ الأذناب، أين الرأس التي تفكّر قبل أن تعتليها العمائم والطرابيش والقبّعات على مختلف ألوانها ومشاربها …. وتحوم فوقها الأفكار السوداء….. وتستخدم للنطاح والهراش قبل التفكير .
كلمة في الزحام:
(الرأس) في اللغة العربية مثل (الروح) : يؤنّث ويذكّر .