الشمس لا تشرق فوق الرؤوس المتلبّدة
الشمس لا تشرق فوق الرؤوس المتلبّدة…. (يسار الكافيار)، تسمية ما كرة أطلقها الفرنسيون في منتصف القرن الماضي على فئة لم تأخذ من روسيا السوفياتية غير دفء فروها وفتنة نسائها مع طيب (كافيارها) وشهرة (فودكتها).
احتل مريدو هذه الفئة من (الثورجيين) مقاهي الحي اللاتيني بمعاطفهم (البوشكينيّة) ونظاراتهم (التروتسكيّة) وطفقوا يزمجرون ويتوعّدون من تحت ضباب سجائرهم، حالمين بتحويل الكونكورد الى ساحة حمراء والإليزيه الى (كرملين) جديد.
رفد هؤلاء الحركة الطلابية بألمعيّة أفكارهم وطزاجتها، نزلوا الى الشارع في ماي/ أيار 68 وأجبروا رجل التحرير ديغول على تقديم استقالته، وماذا بعد…
اليوم- وقد هطل الشيب على رؤوسهم- عاد شباب الأمس إلى انتماءاتهم الحقيقية بعد الانسلاخ الطبقي والمناصرة المزعومة للفقراء والكادحين، بل وإنّ قسماً كبيراً من غلاة اليمين ومتطرّفيه الآن، لو فتحوا ألبومات صورهم الشخصية لشاهدوا أنفسهم بالأمس يهتفون ضد أنفسهم اليوم، انتهت حماسة الشباب إذن وآن للابن الضال أن يعود الى الأهل كما تعود (الناشز) إلى بيت الطاعة .
وحدهم الحمقى والمغفّلون لا يغيّرون ولا يطوّرون من أفكارهم، هذا ما يقوله البراغماتيون ولكن الى أي حد؟ فالأفكار على أي حال ليست جوارب أو قمصاناً أو حتى صداقات.
إنه جدل أقدم من البيزنطيين وأعقد من سؤال البيضة والدجاجة خصوصا حين يدخل المرء في دهاليز السياسة والسياسيين ,ولكنه في اعتقادي غاية في البساطة والوضوح، ويمكن حلّه بوصفة سحرية قد تكون في متناول كل الناس، إنها الحرية.. نعم الحرية في التفكير التي تنبع من الداخل قبل أن نبحث عنها في الخارج، الحرية التي ينبغي أن يمنحها الواحد لنفسه قبل أن يمنحها لأولاده… عفواً هل قلت (يمنحها..) ؟
لقد ابتلعت الكتب بعضهم ولم يبتلعوها، وساقتهم الآراء والأفكار ولم يسوقوها، فصنعوا لأنفسهم أقفاصاً ثم جلسوا يفكّرون في كيفيّة توسيعها أو تزيينها أو حتى كسرها والإفلات منها.
التطرف واحد سواء كنت في أقصى اليمين أو أقصى اليسار، أمّا من ينظر في المفاهيم، يقلّبها ويدقّق فيها بل ويشاكس عليها فلن يجد التطرف طريقاً إلى رأسه لأنّ لديه أكثر من زاوية للنظر ويؤمن بأنّ الطريق تتسع للجميع والشمس تشرق فوق الجميع.
هذه الفئة من الناس أقلية في مجتمعاتنا لأنّ لا مكان لها بين الغوغائيين_ وهم كثر_ فيتّهم الواحد باليمينيّة لدى اليساري واليساريّة لدى اليميني ,إنهم يريدون تصنيف الواحد ووضعه في الخانة التي تناسب مزاجهم كي يهنؤوا و يستريحوا .
أمّا من استعصى فهمه على رؤوسهم الصغيرة فيضعونه في خانة أشنع، أهونها الولاء الغامض…(أي التخوين والعياذ بالله)!
الأحرار في تفكيرهم كانوا ولا يزالون قلّة مظلومة عبر التاريخ، لأنّ ما من أحد يدافع عنهم غير الحقيقة المبحوح صوتها بين النعيق ….ولطالما ركب النهيق على الصهيل.
الأحرار في تفكيرهم هم المبدعون الحقيقيون وفي شتى المجالات من السياسة الى الفن.
سأترك السياسة للساسة وأتحدث عن الفن وإن كنت شخصياً لا اؤمن بمبدأ الفصل، فالبيت الذي تعلّق على جداره لوحة أو تفوح منه رائحة الموسيقى أوتتلوّن العناوين في مكتبته، لا يدخله التطرف أبداً، تماماً كالبيت الذي تدخله الشمس فتفرّ منه الأمراض والأوبئة.. والشمس هي الحرية التي ينبغي أن نربّي أنفسنا عليها في التفاصيل قبل الكليات فتشرق من دواخلنا أوّلا، قبل أن نبحث عنها في الخارج لأن الشمس لا تشرق فوق الرؤوس المتلبّدة بسحب الحقد والتطرف.
ما كان ينقص (يسار الكافيار) أو يمين الدولار على حد سواء هو صدق الانتماء الى الذات أوّلا ثمّ محاورتها بشكل حر بعيدا عن أي موضة فكرية أو ايديولوجية تشبه الجوارب والقمصان.