بين تونس وسورية زقاق ضيّق..
كأنّ المسافة بين بيتنا التونسي الحالي من جهة و روضة وحضانة طفليّ “ابراهيم ” و”سارة “من جهة ثانية هي نفسها المسافة الفاصلة بين تونس وسورية …أي زقاق ضيّق وقصير وبضع أمتار مليئة باللعب والترقّب والحكايات …فيه شجرة ياسمين وأوجاع أيضا ….نعبره كل يوم دون جوازات سفر .
حتى اللّمجة ـ أي الوجبة ـ التي تدسّها الأم في حقيبتيهما كل صباح تشي بتلك الهوية الدافئة والجميلة ….والتي أربكت مشرفات الروضة في البداية فحسبنها هوية ” مزدوجة” …لكنّها جعلت بقية الأطفال يحسدون ويغبطون “برهوم “و”سوسو ” على هذا “الثراء المطبخي ” فيتحدثون إليهما باللهجة السورية كشكل من أشكال الملاطفة والتقرّب ل”بطلين صغيرين ” من أبطال الدراما السورية المعاصرة ….ومن ثمّ مدّ أياديهم الصغيرة للتذوّق من أطعمة سورية ذات مذاق آسر ….ممّا جعلنا نزيد من حجم “اللمجة ” كل يوم ونحسب حساب الأيادي الصغيرة والكبيرة أحيانا .
يحفظ ابني الأناشيد والأغاني التي تعلّمها في الروضة ,يردّدها في الزقاق الضيّق القصير المؤدي إلى البيت ويزيد عنها شيئا ممّا علق في ذاكرته الدمشقية الصغيرة مثل “صباح الخير يا وطنا يسير بمجده العالي إلى الأعلى ” أو “بلاد العرب أوطاني من الشام
لبغدان ” .
نجح في تحفيظ تلك الأناشيد السورية لأترابه , ممّا جعله “قنصلا شرفيّا” من نوع خاص و”نجما” في حفل الروضة الذي يحضره الأولياء ويرتدي فيه الأطفال الزيّ التونسي التقليدي تزامنا مع ذكرى يوم الاستقلال….والتي تليها بأيام قليلة ذكرى استقلال سوريا المسمّى رسميّا ب”عيد الجلاء”….
شاءت محاسن الصدف أن نضيف على هذا الزيّ بعض الأكسسوارات السورية التقليديّة التي جئنا بها إلى تونس ,فازداد إعجاب الحضور وعلا التصفيق …….لكنّ ما أحرجنا وأيقظ وجعا لم يغطّي عليه ذاك الفرح العائلي الصغير هو سؤاله المفاجئ عند عودتنا إلى البيت “ليش ما حضرت “تيتة” و”ميمة ” الحفلة ؟ , ـ أي الجدّتين باللهجتين السورية والتونسية ـ “.
حاولنا إفهامه ـ ودون إقناعه على ما أظن ـ أنّ جدّته من جهة الأم بالشام في عناية الله وحفظه أمّا من جهة الأم فهي في ذمّة الله وإلى جواره .
أمّا شقيقته الصغيرة “سارة ” فلا يهمها من الأمر غير الأكل بمتعة هائلة من أطعمة المطبخين والرقص بفرح عارم على إيقاع اللونين الغنائيين التونسي والسوري ….وهي تدير ظهرها إلى القنوات الإخبارية .
نعم , بين ما حدث في تونس ويحدث في سوريا زقاق قصير وضيّق …لكنّه طويل,شاسع ومفتوح على جميع الاحتمالات التي قد تختفي فيها ـوإلى الأبد ـ الروضة والبيت,عطر الياسمين ,الأناشيد البريئة ,الأكلات الطيبة والدفء العائلي الذي اغتاله برد التمزّق والتهجير .
كلمة في الزحام ..دمشق …حتى هذا الدمار، له ركام و فيه ظلال نتفيّؤ تحتها ونقول لها “عمت انتصاراً هذا الصباح”.
28.04.2014