حديث الخبز
حديث الخبز .. لا شكّ أنّ أوّل من قال: (أعط الخبّاز خبزه، حتى وإن أحرق نصفه) ، قد اكتوى بنار أنصاف المحترفين وابتلى بأشباه الفرّانين وغيرهم من (المتعمشقين ) على صنعة لا يتقنون غير اسمها.
لم يكن هذا المثل الشعبي الدّارج في وطننا الكبير من الماء إلى الماء- وهل يعجن الخبز بغير الماء- إلا كناية عن الثقة المطلقة في ثلاثية اسمها الإتقان والمسؤولية والأمانة … ومن ثمّ احتمالات تقبّل الخطأ والمسامحة.
قس على ذلك في مختلف المجالات، أيها الإنسان الذي لا يعيش بالخبز وحده – حتى وأن سمّاه إخوتنا المصريون بـ (العيش).
إنّه الرغيف في بلاد المشرق، مستديراً وواضحاً ومقمّراً كالقمر، وهو السمّون عند أهل العراق و (الخبزة ) في بلاد المغرب بشكلها الطولاني الواضح كالسيف.
كان للخبز صولات وجولات عبر التاريخ، عفواً، أظنّ أنّ العكس هو الصحيح، لقد كان للتاريخ عبر الخبز صولات وجولات، بل وملاحم خالدة….لست أدري من بدأ بتفتيت الثاني.
مهما يكن من أمر فإنّ (جان فالجان) في رواية (البؤساء) قد قضى عشرين عاماً في السجن لأجل خبزة سرقها، ثمّ كانت الثورة الفرنسية التي تقول في أدبياتها إلى حدّ الآن: (إن من يسرق لأجل الأكل لا يعدّ جانياً أو مجرماً، ولا تنطبق عليه أي عقوبة).
هكذا دفع بطل رواية فيكتور هيغو الثمن غالياً – وإلى الأبد- في بلاد فولتير…تلك التي سقاها بطله الآخر (غافروش) بدمه على ضفاف نهر السين.
صدق فقهاء قانون العقوبات من بعدهم حين سنّوا الجملة التالية: (لا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص ّ قانوني).
لم يختلف الأمر كثيرا عن خبز (أمّ) مكسيم غوركي في روسيا القيصريّة، ذات شتاء أبرد من قلوب الطغاة.
كان الخبز ولا يزال وقود الثورات ومحرّكها – عبر التاريخ – بصرف النظر عن نوعية المرق الذي ينقع فيه، والكافيار والعسل الذي يطلى فوقه.
إنّه الخبز الذي استنبته قدماء المصريين من حنطة، تركوا تحنيط الجثث واحتفوا بالحياة قبل تخليد الممات.
إنه الخبز الذي ينتقد أهل الشمال مدن الجنوب والمتوسّط على الإكثار منه في وجباتهم، تستغرب مضيفات الطيران على تزايد طلبه لدى أهل الشرق في الرحلات المتجهة نحو منبت الشمس.
عفوك، سيدتي ، إنّا مازلنا نقسم به ونضعه على عيوننا عند طلب اليمين …ونقبّله ثلاث مرّات بين الشفاه والجبين…ثمّ نضعه في الأعلى عندما نجده على قارعة الطريق.
هل أتاك حديث الحبّة التي أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مئة حبّة؟ هل شاهدت جدّي يقبض براحته على البذار، يسمّي باسم الله ثم يطلقها مفتوحة كالقدر …فينهمر من بعدها المطر.
الخبز مبارك في بلادي حينما يتزاوج مع الزيت فتسبّح الحناجر بحكمة غريبة، لا شرقية ولا غربيّة.
نسيت أن أقول لك سيدتي إنّ الخبز عندنا لا يعني القمح بالضرورة، إنّه السمك لدى اليابانيين، والموز لدى الصوماليين، والشاي لدى السيلانيين ، والقهوة لدى البرازليين، والحرير لدى الصينيين، والزهور لدى الهولنديين…..والكرامة عند العرب.
• وماذا عن النفط؟
• إنّه ما تطير بفضله طائراتكم الآن أيتها المضيفة المحترمة، يا ذات العينين الشاسعتين المخيفتين مثل هذا المدى.
• هل أعتبر هذا غزلا؟!.
• سؤالك في غير محلّه…لأنّنا نحن معشر العرب لا نحب إلاّ فوق أرض صلبة….ربما بفعل الخوف من الحب.
• ماذا تريد؟
• خبزاً ..وكأساً وقمر…ومن كل شيئ.
بدأت الطائرة بالهبوط التدريجي فوق اخضرار أظنّه أقبل بفعل غيمة هاربة من بلادي، أعتقد أنّ طعم هذا العنب تحت لساني قادم من بلادي هو الآخر …. لماذا لم يعد لساني يتحدّث بلغة الذين أرادوا قطعه…!؟.
طيّب هذا الخبز الذي أكلته منذ حين …وغير محترق، ولكن ليس فيه رائحة أمي.
منعشة هذه النسائم في مطاركم، سيدتي، لم تصفعني إلاّ بالحقيقة … لكنها لم تقبّلني وتعاتبني مثلما كانت تفعل أمي.
هل تسمح لي بالعودة إلى هيكلك المعدني الطائر، أيها الكابتن … إنّ البرد هنا لا يطاق رغم دفء الطقس والقلوب وجمال مقدّمة النشرة الجويّة.
كلمة في الزحام: إنّ خبز المهرة من الفرّانين في بلادكم لا تستسيغه أمعائي يا سيدي …عد إلى هناك، وسأطعمك خبزاً مثل أوراق الأجداد…. أيام كنّا نلتهم الأوراق ونصدّقها .
31.03.2014