حديث في الأحذية
حديث في الأحذية .. (اخلع نعليك إنك في الوادي المقدّس طوى). تأمّل في رهبة وجلال هذه الآية، ذلك أنّ الملامسة المباشرة تكريم للأرض و الإنسان، تبرّك و تقديس، علاوة على أنّها مصدر للطاقة الإيجابيّة ، كما يؤكّد البوذيون والمتخصّصون..
لم ينتعل الحيوان حذاء، بل وهب جلده للإنسان كي يصنع منه حذاء ورداء، ومع ذلك يطارده الإنسان كي يتاجر بجلده وفروه ولحمه وأنيابه وريشه وبيضه وحليبه .. ما أشرس هذا الذي يمشي على قدمين، ويحبّ انتعال الأحذية وأغطية الرأس.
جاء في الصحافة أنّ أرملة الرئيس الفيلبيني السابق تملك عشرات الآلاف من أزواج الأحذية.. وكذلك زوجة الرئيس التونسي المخلوع في معرضها الأخير الذي خصّص لـ(ترقيع) ميزانية الدولة …هل خجلت يوماً من حفاة بلادها ؟!.
عمر الأحذية من عمر الأقدام البشريّة الطريّة والمحبّة للركض خلف الطرائد والغرائز ولكن… ما هذا التناقض في التبجيل والتحقير معاً من الإنسان للحذاء، رغم أنه (همزة وصله) الوحيدة مع الأرض ؟!!, لماذا تلمّع الأحذية وتعرض في الواجهات الفخمة، تمسي رمزاً للوجاهة والأناقة، ثمّ تُحتقر وتُدان ويُضرب بها المثل في الوضاعة مع أنّها(بنيتنا التحتيّة) كما كنّا نسمّيها في مراهقتنا الثوريّة. لماذا قامت الدنيا ولم تقعد في عالمنا العربي حين رشق أحد الصحفيين في العراق الرئيس بوش بفردة حذائه، بينما لم تحرّك هذه الحادثة ساكناً في الثقافة الغربية التي لا ترى في الحذاء مصدراً للإهانة.
لماذا ينظر بعضنا لمهنتي ماسح ومصلّح الأحذية بشيء من الاستعلاء؟ هل لأنّ هذين الاثنين لا ينظران إلاّ إلى الأسفل وكلمة «أمرك» مخرطشةٌ على طرف اللسان، كما جاء في مسرحية «حلم ليلة عيد » لكاتبها ومخرجها… (كاتب هذه السطور).
هل لأنّ الجسم البشري قد قسّم منذ الأزل إلى أسفل ووسطٍ وأعلى، فكرّم الرأس بمختلف أنواع الأغطية ذات الدّلالات المتعدّدة، لكلّ فكرة لون وشكل (والتي تسبّبت في مشاكل كثيرة)، الوسط للأحزمة –أو من دونها- لمرتدي الجلباب والعباءة.. أمّا الأسفل فللأحذية والجزم والأبواط والصنادل والشحّاطات.
يمكن أن تخرج من دون غطاء رأس أو حزام ولكن هل يمكنك الخروج من دون حذاء؟ إلاّ إذا كنت بشر الحافي (الشخصيّة التراثيّة المثيرة للجدل)، أو «أوديب» الإغريقي صاحب الساق الدامية.
لماذا يحتقر الناس الأحذية في بلادنا العربيّة، يهدّدون مخاصمهم برشقها فوق رأسه أو دهسه تحتها للدلالة على الإهانة والتحقير، في حين ينزع الفرنجة قبعاتهم في العتبات وتحت السقوف وعند التحيّة.. ولا يخلعون أحذيتهم فوق السجّاد؟!.
لماذا يقول العامّة: «فلان يملأ مركزه أو كرسيّه أو بنطاله»، ولا يقولون: «فلان يملأ حذاءه»؟.. أين الإساءة في الموضوع؟.
أليس المارّة أشجاراً متحرّكة وتنبت من أحذيتها كلّ صباح؟.
وُجد الحذاء كي يفصل بيننا وبين الأرض، ووُجد غطاء الرأس كي يفصل بيننا وبين السماء، الأوّل لعدم الوضاعة والثاني لضرورة التواضع… عبارة قالها لي جدّي الصوفيّ الورع وأنا طفل صغير..
ما أجمل التواضع والإجلال والتقدير في مقولة يوحنّا المعمدان في بيت (عنبيّا) عند نهر الأردن: (أنا أعمّد بالماء ولكنّ بيننا من لا تعرفونه، وأنا لا أستحقّ أن أحلّ رباط حذائه).
تذكّرت صديقي الشاعر المصري جرجس شكري، (الذي أهداني نسخة مميّزة من الكتاب المقدّس)، تذكّرته في ديوانه المعنون (هكذا بلا مقابل أسقط أسفل حذائي)، وكيف أنّ بعضهم قد استهجن العنوان فأضربوا عن قراءة الكتاب..
حديث الأحذية لا ينتهي, من فردة حذاء «سندريلاّ» إلى«أبي القاسم الطنبوري» إلى خفّي «حنين» وقصّته مع الأعرابي المغفّل، حتّى صارت العودة بخفّيه كناية على خيبة المسعى.
أكتب هذه السطور وأنا أنظر إلى فردتيّ حذاء طفلتي اللتين لم تلمسا الأرض بعد، ترى كم من الأرصفة والمحطّات تنتظر هاتين القدمين الصغيرتين؟
عذراً، حذائي ينتظرني عند الباب كي أتمشّى قليلا بعد كتابة هذه السطور ثمّ، أعود فأخلعه وأنام…ألا يشبه النوم العبادة عند بعضهم .!؟..
أين الجوارب؟… بالغسيل.. حسناً سوف أمشي حافياً في حذائي..
كلمة في الزحام :
وُجد الحذاء كي يفصل بيننا وبين الأرض، ووُجد غطاء الرأس كي يفصل بيننا وبين السماء… أليس في الأمر حكمة نعيشها كل يوم دون أن نعيها..!؟.