غربة وأعياد وقصائد
غربة وأعياد وقصائد …تذهب الغربة بالأعياد إلى نقيض ما جاءت لأجله وهو الفرح والوئام …إنها تعمّق الاحساس بالألم الانساني وتزيد من ذاك الوجع الذي شبّهه نزار قباني ببقعة زيت أو سرب حمام يمتدّ من بغداد إلى الصين .
كأنّما الأعياد جاءت لتفحص نسبة الحزن في الدم العربي المستباح وتطمئنّ للمخزون الاحتياطيّ من تلك الدموع التي لا يراها العالم …وعادة ما تظهر”متلبّسة” في ضحكة شديدة …تعقبها عبارة :” الله يعطينا خير هالضحكة “.
…ولأنّ الفقر في الوطن غربة، فإنّ العيد يأتي مثل وباء يتفشّى في أحياء الفقراء وفاقدي المناعة “الجيبيّة”، يباغتهم كسفّاح يعربد دون رحمة ويذكّرهم بأنّ الفرح لا تطاله الأيادي القصيرة ولا يمكن له أن يحضن الجميع.
…ولأنّ المال في الغربة وطن … فإنّ العيد يمكن استدعاؤه بعيداً عن الديار و بلد المنشأ … مع التكفّل بكامل مصاريف السفر والإقامة وتعبيد طرق الوصول مهما كانت وعرة ….. ولكن……
للعيد بين الأهل وعلى الأرض التي نبتنا منها رائحة وعطر لا يمكن اقتناؤه من المتاجر محبوساً في الزجاجات الفاخرة، ثمّة طعم تفتقده الوجبات السريعة التي لا تعدّها أنفاس الأحبّة … وهناك هدايا خاصة لا تمنحها إلاّ السماء.
ما الذي يجعل يوماً عاديّاً “من أيّام الله “عيداً، ما الذي يعطي ورقة روزنامه عاديّة هذه الهالة من التبجيل وهي التي كانت ترقد مع زميلاتها مثل أيّ رقم لا يعيره عمّال المطابع أيّ اهتمام ..؟
إنها بلا شك رغبة البشرية القديمة المتجدّدة في الاحتفاء بالزمان متزامنا مع المكان، فالبقاع التي قدّسها الله والإنسان ففضّلها على غيرها من أرضه الواسعة، يقابلها تكريم مواز للأيام على غيرها من الأيام.
لا وجود لذاكرة جمعيّة دون أعياد، والعكس صحيح … إنّنا إذن محكومون بالعيش المشترك وتقاسم رغيف المصير الواحد في محاولة توحيد “طوباويّة” رغم علمنا المسبق بأنّ الانسانية لا يمكن لها أن تكون خليطاً متجانساً.
ظلّ الفرح مرتبطاً بمفهوم ” المخلّص” في كل العقائد السماويّة انطلاقا من نقيضه الذي هو العذابات والآلام، لذلك جاء مفهوم “الفدية ” و”الأضحية ” و” القرابين ” لمقايضة الحزن بالفرح.
الرغبة الغريزيّة في الاحتفال والتجمهر عبر طقوس موحّدة في المأكل والمشرب والملبس والمرقص يعكس نزوعاً فطريّاً نحو محو الفوارق الطبقيّة منذ ظهور الملكيّة …. لكنها شكلانيّة محضة، يغذّيها خيال الشعراء والحالمون بالجمهورية الفاضلة بعيداً عن سطوة الاقتصاد كسيف مسلول وقدر محتوم .
أروع القصص والأفلام الرومانسية في التاريخ هي تلك التي حدثت ليلة العيد، والغريب أنّ الإعلام التلفزي ودور المسرح والسينما تعيد عرضها عشيّة العيد بحماس شديد … ثمّ تقوم بإرجاعها إلى الرفوف في المستودعات الرطبة بانتظار العام المقبل …. مثل يافطات
” تجديد البيعة ” لدى الأنظمة العربية المزمنة.
غربة وأعياد وقصائد
… ويبقى حزن الغربة في الأعياد منبعاً لا ينضب في الإبداع الانساني، من روائع شارلي شابلن و “سبيلبرغ” في السينما إلى سحر “الكسندر دوما” و “هيغو” في الرواية …. وصولاً إلى قصائد ايليا أبو ماضي مروراً بالسيّاب ومظفر النواب وعلي الجندي ومحمد الماغوط … وقبلهم المعلّم الأوّل، صاحب “عيد بأيّة حال عدت يا عيد “.
كلمة في الزحام:
ما زلنا أصحاب الأرقام القياسية في “أولمبياد السباحة في الدموع المفتوحة .. والمغلقة… وحتى الضحلة ” .
14.10.2013