قلّة الأدب في أدب النصيحة
قلّة الأدب في أدب النصيحة… قال الكندي المكنّى بفيلسوف العرب ينصح ابنه : ” يا بني، الأب ربّ والأخ فخّ والعمّ غمّ والخال وبال والأقارب عقارب وقول ” لا ” يزيل البلاء , وقول ” نعم ” يصرّف النّعم “.
هكذا، وبكلّ سلاطة ينسف الكندي مفهوم العائلة ومبدأ صلة الأرحام ليبقي على سطوة الأب وحدها … في حين تسعى كل الإبداعات الانسانية عبر التاريخ إلى ” قتله” بالمفهوم المعرفي والثقافي، كما أنّه ينظّر من خلال هذه النصيحة اللغم إلى سيادة البخل والبخلاء، فلا عجب أن يصنّفه الجاحظ من أبطاله في كتابه الشهير، رغم أنه العربي الصرف، نسباً وانتماء، والوحيد بين الفرس والعجم من سكّان “مرو” الذين تصدّروا بطولة البخل في كتاب الرجل الذي ردّ على النزعات الشعوبيّة بشراسة وتهكّم قلّ مثيله.
قد يكون هذا النموذج مثالاً راقياً وممتعاً في “أدب النصيحة” مقارنة بتلك الكتب الصفراء والرخيصة التي تعجّ بها الأرصفة والمحطّات الفضائية والشبكات العنكبوتيّة على شاكلة: ” كيف تكون مليونيراً في عام واحد ” و عازفاً في شهر و بلبل لغات في عشرة أيام ورياضيّاً في خمسة أيام وشاعراً في يومين وعبقريّاً بين عشيّة وضحاها.
الذين يبيعون النصيحة ويسوّقونها يشبهون قارئات الأكفّ والفناجين وكاشفات البخت والسحر والضاربات في الرمل والودع والمندل وغيرهنّ من بائعي الوهم والضاحكين على الذقون المحلوقة والممشوطة في شارعنا العربي البائس.
قديماً كانت النصيحة بسفينة صحراء لدى العرب في دروب التيه والعطش والموت المقنّع بالسراب ثمّ صارت بالدولارات في عالم المال والأعمال عند المستشارين …. لكنها – على عكس ما يشاع – لم تصبح مجّانيّة أبداً …. حتى لدى أقرب المقرّبين إليك .
العائلة تنصح ابنها الطالب بضرورة طاعتها في أن يصبح طبيباً أو مهندساً ليحلّ مشاكلها المادية، وربّ العمل ينصح العامل بضرورة الاجتهاد والتفاني في الوظيفة سعياً لوفرة الربح، الصديق ينصح صديقه بـ”الوفاء” لعلّه يحتاجه يوماً، العدو ينصح ضحيته بالسير في الطريق التي يراها آمنة وغانمة لمآربه، والواعظ ينصح الرعايا بالتزام التعاليم التي يراها مقدّسة كي لا تبور تجارته والزوجة تنصح زوجها بالابتعاد عن رفاق السوء كي يتفرّغ لها وحدها.
النصيحة ” مصادرة ناعمة ” لإرادة الآخر وكبح ” حنون” للرغبات وشهوة المغامرة …. كما أنها سلعة لا رأسمال لها غير رأس مدبّرة ومحنّكة تعيد تغليف التجربة الفرديّة لتبيعها للأغرار والمغفّلين.
الوصايا لا تأتي إلاّ في صيغة الأمر سلباً أو إيجاباً .. وما على الجالس أمامه أو تحت منبره إلاّ تنفيذ ما يقوله دون نقاش، فإن خاب مسعاك فيما ذهبت إليه قال لك الناصح: ” إنك لم تتبع المعلومات بشكل جيّد … والبضاعة التي تباع لا تسترجع … لكنها قد تستبدل ” .
يتميّز الناصح بكثير من الجرأة – كي لا نقول ” الوقاحة “- فتراه يكيل الوصفات بعينين مغمضتين مثل متطبّب مشعوذ ويوجّه الانتقادات دون رأفة مثل جبان أمام فارس .
لماذا نطلب النصيحة ونسعى إليها إذن، ولماذا يمارس المنصوح عادة مهنة الناصح ؟ إنها الأدوار التي نتقمّصها منذ ألعاب الطفولة الأولى … والحقيقة التي تشبه مكعّباً حمّال أوجه … وهي في صيغتها الايجابية والبريئة : غريزة الإفادة والاستفادة وحب التألّق والنجاح بالفطرة حتى لدى “دعاة الفشل” من الوجوديين والفوضويين.
كلمة في الزحام :
قالت فيفي عبدو لنجيب محفوظ حين شاهدته يركب سيارة متواضعة قبل أن تفوز به نوبل :
– بصّ الأدب عمل فيك ازّاي يا نجيب
– الحق معاك يا أستاذة فيفي….بصّي قلّة الأدب عملت فيك ايه “…..وهو يشير إلى سيارتها الفخمة .