لن أبتسم من فضلك
لن أبتسم من فضلك.. لماذا يبتسم الناس عندما يقفون أمام عدسات الكاميرا في الحفلات والمناسبات الاجتماعيّة ؟ أيّ سلطة لهذه الآلة الصمّاء العمياء حين تجعلنا نتصنّع السعادة والفرح غصباً عنّا، إنّ مجرّد المثول أمامها تجعلك (ممثّلاً) دون أن تكون ممثّلاً، ومبتسماً دون أن تكون مبتهجاً..!؟
من يذكّر استوديوهات التصوير التقليديّة (وحتّى الحديثة) يتذكّر مرآة ومشطاً وربطات عنق حسب الأذواق.. وربما بدلة وأحمر شفاه للسيدات…. عدا طاقيات رعاة البقر ومسدّسات الأطفال البلاستيكيّة .
تجلس إلى كرسي الاعتراف المزيّف، يأتيك المصور ويقول لك بمنتهى الجديّة والصرامة : (أين الابتسامة).. ؟!.. وكأنها موجودة ضمن الإكسسوارات التي لمحناها في محلّه، تستعير ابتسامة تحت وهج الضوء وتجلس منتظراً كبسة من إصبعه ـ لا تنس أن تردّها بعد الفقسة ـ (مرّة نسيت مشطاً في جيبي ومرّة تناسيت ربطة في عنقي).
روى (الطفل الكبير) الذي كان يوماً (رجلا صغيراً) قال: أذكر عندما كنت في زيارة مدرسية لجامع عقبة بن نافع في بالقيروان، شاءت الصدفة أن شاهدت فريق تصوير الفيلم الأجنبي الشهير (لص بغداد) في صحن الجامع (أغلبهم كانوا بالتنانير والسراويل القصيرة)، طلبت من سيّدة أن تصوّرني بآلتها العجيبة ذات الزّوم الطويل قائلاً بلغة فرنسيّة مهلهلة:
ـ )أرسميني من فضلك)، غير مفرّق بين فعلي (صوّر) و (رسم)، أجابتني بلغة مكسّرة (هي لم تكن فرنسيّة): أنا لست رسّامة، أنا فوتوغراف.
همس زوجها في أذنها:
ـ معه حق، أنظري كم يستحقّ وجهه الرسم.
مسحا على شعري (الكثيف آنذاك) ثم انهال عليّ الاثنان بوابل من الفلاشات وأنا بعيد عن قطيع التلاميذ الذين سبقني مع الأستاذ الثرثار إلى ركن آخر من الجامع.
بعد يومين عمّت المظاهرات والمسيرات مدينة القيروان احتجاجاً من أهلها على انتهاك حرمة المكان، رضخت الحكومة لمطالبهم آنذاك، وخلّد السينمائي الصديق (رضا الباهي) الحدث في فيلمه الذي حظي بتكريمات عديدة في مهرجانات كثيرة تحتفي بسينما المؤلّف.
لم أتذكّر أنّي ابتسمت لآلة تلك السيّدة .. ولم أفهم جيّدا معنى الفيلم، لكنّي تألّمت للعقوبة القاسية في حق بائع الصور السياحيّة الذي اغتصب سائحة ألمانيّة في شريط (عتبات ممنوعة) وتذكّرت مقولة مالك حدّاد (شهيد اللغة العربيّة): (الصور ذاكرة الحمقى).. وفكّرت: لماذا لا يبتسم المتسوّلون!… لعلّهم يلعبون دور تمثيل التعاسة كما نلعب نحن دور تمثيل الفرح.
*كلمة في الزحام :
يمسكه من يهمّه الأمر بين السبابة والإبهام وهو بتسم بخرزة في القلب وأنف أفطس يسيل منه حبر وطني خلف الحاجز البلاستيكي …إنها رخصة العبور التي يضعها في جيبه الخلفي ويمضي كلّ صباح في الزحام .