ماذا يعني أستاذ (تربية وطنيّة)…!؟
ماذا يعني أستاذ (تربية وطنيّة)…!؟ هل تحتاج الوطنيّة إلى دروس ومناهج ومدارس وفحوص شفويّة وكتابيّة ؟ هل تخضع لامتحانات يكرم المرء فيها أو يهان؟ هل يلزمها أساتذة أكفّاء ومؤهّلون يتقاضون رواتبهم من خزينة الدولة التي هي ملك للشعب ..أي من الوطن .!؟ .
هي مجموعة أسئلة وتساؤلات طرحتها على نفسي في سنّ المراهقة حين (سقطتّ) في مادة التربية الوطنيّة وفي البلد الذي ولدت و نشأت فيه وحمّلني جنسيته التي سوف أورّثها لأحفادي كأمانة لا تقبل الإخلال أو التفاوض أو الخيانة لا سمح الله.
لا أنكر أنّي كنت أثناءها غرّاً، نزق الطباع، مشاكساً على كلّ المفاهيم والمواد المقرّرة في المناهج التعليميّة …. بدءاً بتلك التي تبدأ بكلمة (تربية)، وطنيّة كانت أم بدنيّة، دينيّة، هندسيّة الخ…. وانتهاء بالرياضيات والحسابيات، على اعتبار أن ليس لديّ شيئ كي أعدّه أو أحسب إليه حساباً.
لكنّ مصطلح (وطنيّة) ظلّ ومازال العبارة الأكثر ريبة وتعقيداً وإشكالاً لدى الإنسان رغم بساطتها ووضوحها في عالم الحيوان الرافض للعيش في الأقفاص البعيدة عن أحراشه، والنبات الذابل احتجاجاً على زرعه في غير بيئته … وإن أجبر على ذلك فلا يعطي الثمار والأزهار والاخضرار الذي يعطيه في تربته…. أو(تربيته) التي يمدّ جذوره فيها كما يشاء وهواؤه الذي يستنشقه بحرية فيرفع الهامة وهو يكبر مثل حقيقة لا تقبل الالتفاف عليها.
وحده الإنسان يجعل من (الوطنيّة) لغزاً محيّراً، فيخصّص لها الدروس والأساتذة، يختبرها بالامتحانات الشفويّة والكتابيّة، يربطها بالناجحين والراسبين والمعيدين والمستدركين … لكنّه قلّما يختبرها بالممارسات الميدانيّة والمواقف الحاسمة والرهانات الكبيرة.
الوطنيّة لدى تجّار الوطنيات في أيامنا العربية العصيبة تشبه صكّ اعتراف أو براءة ذمّة أو شهادة (لا حكم عليه) ، يخطّها من نصّب نفسه وليّاً للأمر والنهي و مطوّباً لمن أعلنهم قدّيسين في هيكلها .. لمجرّد أنهم يأتمرون بإمرته ويخدمون مصالحه.
يؤكّد الدارسون – ومعهم أستاذ التربية الوطنيّة الذي درّسني ثمّ رسّبني في الامتحان – أنّ أوّل من استخدم كلمة (وطن) في الأدب العربي هو الشاعر العبّاسي ابن الرومي في قوله:
(ولي وطن آليت ألاّ أبيعه * وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا) .
ربّما غاب عن بعضهم أنّ الشاعر المذكور من أصول روميّة وقد اشتهر بالتطيّر والشعوبيّة، وعرف بالنقد اللاذع لكثيفي الشعر من العرب والفرس لأنّه كان من النوع الأمرد، ثمّ أنّه رثا البصرة عندما أحرقها الزنوج في ثورتهم الشهيرة وصبّ عليهم جام غضبه …. فكم يلزمنا من مدقّق في ملف ابن الرومي الشخصي كي يمنحه شهادة (الوطنية)، لمجرّد أنّه أتى على ذكرها في شعره.
أعتقد أنّ الوطنيّ الحقيقيّ هو ذاك الذي لا يكثر الحديث عن الوطنية ولا يحتاج إلى دروس كي يعتنقها … ولا حتى إلى أناشيد حماسيّة كي تذكّره بها في كل تحية علم عند باحة المدرسة.
إنها تمارس كالغريزة وتدرك بالإلهام ولا يكافئ لأجلها ولا يصنّف الناس بسببها، ,إنّنا نتعلّمها من الأسماك العائدة عبر المحيطات إلى مسقط بيضها والنسور المنتحرة فوق أعشاشها والورود التي تكتم عطرها في حوض لا يشبه شرفة الوطن.
*كلمة في الزحام:
…. عفواً يا أستاذ التربية الوطنيّة، قد تنبّهني دروسك إلى ما غفلت عن تذكّره، لكنها المحبّة وحدها، والوفاء وحده ما يجعل مني (وطنيّا ) دون أوراق ثبوتيّة .