من (راس جدير) إلى (لومبادوزا)..مركب الأحلام
من (راس جدير) إلى (لومبادوزا)..مركب الأحلام… لاشيئ يدلّ على ايطاليّة هذه الجزيرة المكتظّة بوجوه لوّحها البؤس والقهر والانتظار,لا شيئ سوى هذا العلم المرفرف –في خجل- فوق مراكب خفر السواحل وسيارات الإتقاذ و الإسعاف .
السكّان المحلّيون في جزيرة ( لومبادوزا ) صاروا أقليّة، ينظرون كل صباح إلى المراكب المتهالكة والمتهافتة على الشاطئ يحدّقون في البحر الذي يقذف إليهم بجثث منتفخة وأخرى مازالت تمشي على أقدامها وقد تأجّل دفنها، فاصطفّت في رتل طويل أمام أطبّاء يضعون الكمّامات ويفحصونها خشية وباء آخر، قد يتسرّب إليهم من الضفّة الأخرى.
ترى، لماذا تزحف قارة بأكملها –أوتكاد- نحو جزيرة في حجم تابوت إفريقي كبير و مرعب، لا (يكلّله) إلاّ الصليب الأحمر، وهومسجّى فوق هذا المتوسّط الذي أبدل زرقة الحلم بزرقة الموت والغدر !؟.
تزعم الجغرافيا أنّ جزيرة (لومبادوزا) تبعد زهاء مائة كيلو عن ساحل الشمال الإفريقي… لكنّ الناجين من القادمين عبر هذه المراكب المتهالكة يؤكّدون أنها تبعد مائة شهقة موت أزرق، مائة مجداف متكسّر، مائة عاصفة من الرعب، مائة شراع و مائة عام من القهر … إلى حدّ الأمل…. وقبل ذلك كلّه، مئات من الدولارات واليوروات مقابل (الرأس الواحد) يدفعونه لأصحاب المراكب (التابوتيّة) وسماسرة الهجرة المشؤومة.
لو يدرك الذين يقيسون بالمسافات والخرائط وحدها حجم الجثث التي سقطت (حنينا إلى لومبيدوزا ) لألحقوا القارة السمراء البيضاء…. وصارت مياه المتوسّط قمحية اللون.
قد لا يعلم بعضنا أن إفريقيا أو (أفريكا) تعني بلاد القمح وقد جاءت هذه التسمية من كلمة (فريكة) بلغة أهل قرطاج والتي كانت تلقّب بمطمورة روما لكثرة ما نهبت الأخيرة خيراتها واستباحتها بعد هزيمة القائد حنبعل في القرن الثاني قبل الميلاد .
هكذا سمّيت القارة كاملة باسم قرطاج بلاد القمح… فهل تذكر أيها البحر تلك السفن التي كانت تمخر عبابك وهي محمّلة بالقمح والتين والزيتون … وكل ما يجعل روما على قيد الحياة.
روما التي أرادت الانتقام لكبريائها المهدور حين حاصرتها قرطاج عبر جبال الأب وكادت أن تدخل عقر دارها – لولا خيانة ما- تمكّنت من الدولة الفتيّة، فرضت عليها اتفاقية إذعان، أحرقت زيتونها، ثم رشّت فوق ترابها الملح وساقت الكثير من شبّانها بالأكراه عبر هذا البحر للخدمة في امبراطوريتها…. فلماذا يعود إليها شباننا هذه المرّة (طواعيّة) أوتحت جنح الظلام للعمل في مزارعها ومصانعها ومعاصرها…!؟.
أيها الشبان و-حتى الشابات وحتى الأطفال والمسنّون وذوو الاحتياجات الخاصة – من الذين يقبعون الآن – طواعية – في معسكر تحيط به الأسلاك الشائكة على ظهر هذه الجزيرة النحس، اعلموا أنّ الكثير من أجدادكم أيضا قد مرّوا من هنا منذ ما يزيد عن ألفي عام، وأقامت لهم روما معسكرات للتجميع والتدريب و(إعادة التأهيل) قبل أن ينضمّوا إلى خدمة الإمبراطوريّة العجوز.
لا شكّ أنّ الأسباب واضحة للعيان … لكنّ شيئاً ما يحدث هناك، في القارّة السمراء… لعلّها نفس رائحة الخيانة التي اشتمّها حنّبعل في صفوف محيطية وفي أزقّة قرطاج حتى جعلت قدر أبناء بلاده يخدمون في حضارة روما.
هل قدر كلّ بوصلة في بلادنا أن تشير إلى الشمال وحده دون غيره من الإتجات، هل قدر كلّ أنهار إفريقيا أن تصبّ في الشمال، لماذا يبحث شبابنا عن الدفء في مدن الثلج ويصارعون البحر مثل(الغلادياتور) في مسارح روما القديمة، فإمّا أن تمزّق لحمه الوحوش …وإمّا أن يمنحه أسياد روما حرية مشروطة ونصف حياة كريمة .
بالمناسبة … حتى تلك الوحوش التي نهشت أجسادهم، كان يستقدمها الرومان من إفريقياعبر السماسرة والوسطاء .
هذا ما ساقني إليه شرودي وأنا أتأمّل تلك الحشود الرهيبة من جنسيات إفريقية كثيرة في بلدة (راس جدير) على الحدود التونسية الليبية، محاطة بفرق الإغاثة، يرعاها(الصليب الأحمر)…. بعضهم مشرئب العنق، يتطلّع إلى الشمال ويسأل عن أجرة (الرأس الواحد) فوق مراكب الأحلام المتهتّكة التي تمخر عباب الحلم والظلام تحت جنح الأمل والخلاص… فهل اتسعت أرض بلادي وصار حدودها (لومبادوزا).
*كلمة في الزحام:
عفواً… اتّسعت الآن بلاد الشمال الافريقي أكثر … وصار حدودها سوريا … لعلّها الرغبة نفسها في طلب الموت خارج (الوطن)…لا تسألوا عن الأسباب والدوافع بما أنّ بؤس الوجوه والأرواح هو نفسه … كذلك السماسرة والنخّاسون الجدد هم أنفسهم….ولم يتغيّروا.