من يراقب الرقيب…!؟
من يراقب الرقيب…!؟ (إلهي الجميل الذي أحبه ,إن كنت تحبني فاصرف هذا الملاك الذي على يميني وذاك الذي على شمالي…لأنّ الرقابة لا تليق بالألوهيّة).
هذا ما قاله أحد الشعراء وهو يتضرّع إلى خالقه مثل سنّور ضعيف.
كذلك تروى طرائف ونكات كثيرة حول الرقيب الذي طالت يداه وقلمه وممحاته ومقصّه ميادين كثيرة في الحياة والممات…والصحو والسبات.
ترى, ما سرّ خشيتنا من الرقيب وهروبنا الدائم منه (وملاحقته الدائمة لنا) كالقدر المحتوم ,كالقضاء,كشرّ لا بدّ منه.
من هو الذي على حق ؟ (توم) أم (جيري)…ولماذا الملاحقة من أساسها ,فالحياة تتّسع للجميع,المخالفين والمنضبطين,الأخيار والأشرار …ولكن.
أيّ نص قانوني يحدّد البريء من المجرم ,يميّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويشير بإصبع صريحة إلى من يقبع داخل قفص الإتهام ؟.
لا يختلف اثنان في أنّ أيّ سلطة عبر التاريخ -ومهما علا شأنها واتسعت نزاهتها وعدالتها- تحتاج إلى رقيب يعمل على بسط نفوذها وتكريس خطّها الذي اختارته بالترغيب حينا و التهديد أحيانا… ذلك أنّ لا شيء أسوأ من الظلم غير الفوضى والانفلات باسم الحريات.
ليس الأمر تبريرا أو غمزا أو مغازلة لأي جهة على الساحة العربية فأنا -والحمد لله –لم ولن أكتب في السياسة أبدا,كما أنّ هذا لا يمنعني من إبداء الرأي في الشأن العام بعيدا عن أي رقيب….وأحاول أن أكون حرّا وطليقا مثل نسمة صباح.
عدنا إلى الرقيب الذي انطلقنا منه وينطلق منّا في كلّ لحظة ,فلا ينكر أحدنا أنّ في داخله (مخفر) شرطة أخلاقية وسياسية ودينية وغيرها ,وقد تتّسع (المفارز) والعناصر أو تصغر من شخص لآخر باختلاف درجة الجرأة وتحمّل الضربات.
إنّ مجرّد الإحساس بأنّك مراقب يفسد عليك متعة الفعل الذي (تتلبّس) به,مثل التفكير بصوت مرتفع أو الكتابة في مقهى أو مغازلة من تحبّ على الهاتف دون تفكير في الكلام وفاتورة الكلام .
إنّ مجرّد التفكير بأنّك مراقب يجعل حيطان بيتك من زجاج ورأسك أيضا من زجاج…وهمساتك تصدح في مكبّرات الصوت …وسريرك تحت الشمس.
احترام الخصوصيّة يجعلك تتنبّه إلى معنى ختم الرسالة المكتوبة حين تلعقها بلسانك قبل وضعها في صندوق البريد,يجعلك تعذر الصّاغة والنسّاجين والطبّاخين والمهنيين حين يتجنّبون عيون الفضوليين أثناء عملهم.
لا يعني كره الرقيب –بالضرورة- الرغبة في (إيتاء الفاحشة )وإنّما التّوق إلى أن تكون وحدك مثل مجيئك وحياتك ورحيلك ووقوفك في يوم الحشر والحساب وعذاب القبر.
هذا عن الرقابة اليوميّة العاديّة و الغريزيّة…فما بالك بالرقابة في الإبداع والتعبير التي تجعل قلمك مكمّما وصوتك أخرس وريشتك عمياء وآلة تصويرك منقّبة ومسرحك بلا مسرح.
ماذا عن الرقابة التي تدفعك إلى المسايرة وأنت معصوب العينين أو البحث عن لقمة عيشك خارج استطاعة أصابعك وما خلقت لأجله.
ماذا عن الرقابة التي تحوّل حلمك إلى كابوس , قلمك إلى هراوة وريشتك إلى منشّة فوق جبين السلطان.
إذا كان لا بدّ من رقيب على الرقيب ليمنعنا من السقوط في التقوّل والافتراء, فليكن الله والضمير والأخلاق لكي لا تكون أقلامنا سكاكين وأصواتنا جعيرا وعيوننا كاذبة ومصيرنا بائسا.
قال ابن خلدون:(لا يميّز المرء إلاّ قوله ولا يثمّن القول إلا الفعل)…مع التذكير بأنّ المرأة هي مؤنّث المرء في لغة العرب….وأنّ صاحب المقدّمة وكتاب( ديوان العبر في أخبار العجم والعرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) يتوسّط تمثاله أكبر شوارع تونس وينظر إلى البحر والمستقبل بعينين لا يرتدّ لهما رمش.