نوافذ

مُداواة

اليمامة كوسى

من أكثر الأمور الغريبة والرائعة التي تحصل معي بشكل متكرر هي أنني وفي غمرة انشغالي بالبحث عن شيء ما أُفاجَأ بإيجاد شيء آخر  يُنسيني ما كنت أبحث عنه!

وحتى ينسى المرء ما كان يبحث عنه لا بدّ وأن يكون ذلك الشيء الآخر الذي وجدَه لامعاً بما يكفي ليغمر بؤبؤَي عينيه المتّسعين، بشكلٍ لا يمكّنهما من رؤية أيّ شيء آخر سواه.

منذ مدّة كنت أقلّب مفكّرتي بحثاً عن بيتٍ شعريّ كنتُ قد كتبته منذ زمن ولم أستطع أن أُرغم ذاكرتي على استدعائه، وفي الوقت الذي كان فيه من المفترض أن أُطالع الأبيات الشعريّة المكتوبة وأبحث فيها عن ضالّتي؛ وجدتُ نفسي أتنقّلُ بين نصّ وآخر وبين ذكرى وأخرى دون أن ألحظ إلى أي تاريخٍ كنت قد وصلت.

وعلى اعتبار أنّني أَعي تدفّقَ الزمن وتجديدهِ للحظاتهِ باستمرار؛ أجدُ بأنّ عينَيّ تبقيان مشغولتَين بتتبّعِ المياهِ المندفعةِ لحظةً بلحظة دون أن تجدا الوقت الكافي لتُركّزا فيما كُنتُهُ، أو فيما أصبحتُ عليه.

ولهذا جذبتني تلك السطور التي كنتُ أحدّثُ بها نفسي دون أن أرغب في أن يسمع صداها أيّ أحدٍ آخر سواي.

ليس من السهل أن أصفها بوصفٍ واحد، فهي نصوصٌ فيها من الضعف بقدر ما فيها من القوّة، ومن الضياع بقدر ما فيها من الاهتداء، ومن الاستسلام بقدر ما فيها من المواجهة.

شعرتُ بأنّها كانت كلماتُ نفسَيْن اثنتين لا نفس واحدة؛ الأولى مُتعبةٌ هشّة تشعرُ بأنّها لا تجدُ أرضاً ثابتة لتجعلها موطئ قدميها، والأخرى قويّة مجبولة بالفولاذ لا تدّخرُ جهداً في سبيل إقناع الأولى بروعةِ التحليق.

جذبتني تلك الهالة التي كانت تُشعّ من حروف الثانية وتطغى على كلّ ما حولها، كانت حنونةً وقاسية في ذات الوقت، فبينما كانت توقظ أختها التوأم كلّما غفلت ولا تدعها تنامُ قدر ما تريد، وتؤلمُ رأسها بانتقادِ أفكارها وتصرّفاتها، مُغرِقةً طريقها بتّوجيهاتٍ وإرشاداتٍ لا تنتهي؛ كانت تَفهمها وتتفهّمها، تُصغي إليها بكلّ جوارحها، تحتضنها بعطف وتمسحُ الدموع عن خدّيها دون أن تقول لها “توقّفي عن البُكاء”، والأهم من كلّ ذلك هي أنّها كانت تُذكّرها دوماً بمَن تكون، وبما عليها أن تكون.

فكّرتُ بأنّني أستطيعُ تخمين مَن منهما الأكبر بسهولة رغم أنني لا أعرف توقيت ولادتهما بالضبط، صحيحٌ أنها بضع ثوانٍ في ميقاتِ الحياة البشريّة يتقدّمُ فيها أحد التوأمين على الآخر ويُولَد قبلَه، لكن يبدو أنّ الأمور تختلف في ميقاتٍ آخر ليصبحَ الوعيُ والذكاءُ والقوّةُ هم معاييرُ العمرِ الحقيقيّة بغض النظر عن توقيت الميلاد. فيكونُ بذلك الأوعى، والأذكى، والأقوى هو الأكبرُ دوماً.

لا يمكنني القول بأنّ الأمر اللامعَ الذي وجدته وأنا أبحث عن ذلك البيت الشعريّ الضائع هو أنّ نفسي الكبرى هزمت أختها، فالإخوة لا يهزمون بعضهم، بل ينصرون بعضهم.

لقد وجدتُ بأنّ نفسي الكبرى استطاعت أن  تخيط جراح توأمها وأن تجعلها قويّةً مثلها إلى أن أصبحتا نفْسَاً واحدة. وبذلك يكون الأمر الذي سُررتُ بإيجادهِ وأنسَاني ما كنت أبحثُ عنه هو أنني في فترة من الفترات نجحتُ في مداوةِ نفسي بنفسي دون أن أعلم ذلك إلى الآن!

يبدو بأنّ العصفور لا يدرك كم كان بارعاً في مداواة جناحهِ المكسور إلّا عندما يُرفرفُ به عالياً، ولا يدركُ كم كانَ مدى نظرِهِ ضيّقاً إلّا عندما يندهش باتساعُ السماء وهو يجوبها بجناحيه، لكنّني واثقةٌ بأنّه بعد أن يدرك كلّ ذلك سيكون من الصعب جداً أن يقنعهُ أحدٌ بأن يتوقّف عن الطيران، لأنّه ببساطة أصبحَ يعلمُ جيّداً كيف يطير، ولماذا.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى