كتاب الموقعكلمة في الزحام

أبي والمدرسة

أبي والمدرسة.. مازالت كلمة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة تطنّ في أذني بمناسبة العودة إلى المدارس: ” إنه لمنظر مهيب، ويثير في النفس الغبطة والاعتزاز أن نرى كل عام وفي مثل هذا اليوم مئات الآلاف من فلذات أكبادنا بزيهم الوردي والأزرق وهم يزحفون نحو مناهل العلم والمعرفة لصناعة المستقبل،  بينما يذهب غيرنا من البلدان العربية إلى خداع شعوبهم عبر تكديس الأسلحة و “تعليم ” الجهل والعدوانيّة عبر الشعارات البرّاقة والجوفاء….”.
اسمحوا لي أن أخطّ هذه السطور من التذكّر على دفتر المدرسة الذي أهديته لطفلي في أوّل يوم له بالتعليم التحضيري :
– حدّثني يا أبي عن أوّل يوم لي في المدرسة
– كبرت يا بني مثل وجع ممتع وأخذتك بيدي إلى أجمل بناء قرميدي تركه لنا المستعمر الفرنسي، سلّمتك إلى المقعد الرابع قرب الشباك، وإلى جانب الصبيّة “جميلة ” (هكذا اسمها في دفتر الحالة المدنيّة )، رأيتك تبكي وأنا أغادر لأبشّر أمّك بهذا اليوم الرائق وأطلب منها إعداد الطبق الذي تحبّه.
-لماذا سلّمتني يا أبي –هكذا ودون رحمة – للحروف والأرقام ورائحة الدفاتر وغبار الطبشور وبياض الورق ؟!
-كفاك دجلاً يا بني، لقد كنت تبكي غيرة من صديقك (سمير) الذي أجلسه المعلّم إلى جانب صبيّة أجمل من (جميلة) المصابة بالسلس البولي.
-أخبرني يا أبي، كيف أقنعتني بالعودة إلى المدرسة التي شتمتها و قفزت من أسوارها أكثر من عشرين مرة؟
-أمك هي التي رشتك بالنقود وأقنعتك بضرورة التعلّم لتقرأ لها ما تيسّر من نهج البلاغة وقصار السور … ثم أنّها طلبت من المدرسة إجلاسك إلى جانب صبيّة جميلة… ألا تذكر حين كنت تخجل من كبر سنّي أمام أقرانك وتقول لهم بوقاحة: هذا جدّي وليس أبي؟
-أنت أيضاً كنت تمارس الكذب الأبيض يا أبي، ألا تذكر حين تأخذني معك إلى الصيد ثم نعود صفر اليدين بعد يوم متعب فنشتري في طريقنا صيداً وتطلب منّي التكتّم على الموضوع أمام أمي.
-ليس للكذب ألوان يا بني ولكنّ للحبّ حيلاً وأكاذيب ممتعة .. والآن، اسمح لي أن أرحل قبلك يا بني كي أطلب من أمّك إعداد الطبق المفضّل من الفرح في السماء.
الآن وأنا أرزح تحت نير الكلام .. وكلّما أجهشت بالكتابة قرب الشباك أرى أبي يبتسم ويبتعد .. تماماً مثل أول يوم في المدرسة.
يا صديقي الذي انضمّ أخيراً إلى نادي اليتامى قولاً وفعلاً وصار ينافسني على الرئاسة الشرفيّة:
أنظر، كم نحن غرباء، مستوحشون وعاطلون عن الفرح بعد أن كنّا نشاكس آباءنا، نحلف برحمتهم قبل أن يموتوا، ونظنّ أننا سوف نعيش دون أبناء.. ودون ترحّم على أحد.
أنظر كم كان الآباء حرّاساً للأمان وشمّاعات للهزائم، أنظر كم كانت أمهاتنا يطلن التفاوض معهم ويستشرفن اليتم والطرقات الموحشة…(ألم يقل محمود درويش: لا تصدّق زغاريدهن).
لم يكن أبي إلاّ أبي، يسخر من هرطقتي ويتحسّس جسده النحيل كلما أوغلت في العصيان ويتأمّل صورة ابني كلما اتهم نفسي بالعقوق.
أبي وأبوك كانا رجلين من التحمّل والوقوف الطويل أمام صورنا قبل المدارس … والزوجة والجيران والتاريخ.
لقد غابا انتصاراً لما سوف يأتي ورهاناًعلى المستحيل … ما أسهل المستحيل وما أصعب المتوقّع.
الآباء لا يكذبون، لذلك يموتون باكراً، دون مرثيات ويرحلون بأكفان أنيقة ودون جيوب … الآباء يموتون دائماً دون علم الأبناء وفي غفلة وهن فيها التعب.
عفواً أبي، أنا لم أبكيك كما ينبغي، لكنّي أعرت حزني لمن يفقدون آباءهم من الأصدقاء لعلّي بذلك أحفظ ودّك، و إلى الأبد…
عفواً أبي، أذكر حين حدّثتني في لحظة حنوّ قائلاً: جئت بوزن سفرجلة، قبّلتك وأنا أخاف أن أجرحك بشعر ذقني ثم أعدتك إلى أمّك، كنت أقبّل اسمك قبل رأسك بعد السنين الإناث .

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى