كتاب الموقعنوافذ

رباعيات الذهب

رباعيات الذهب

إلى الموسيقار صلحي الوادي
“الغياب هو العلامة الموسيقية…للناي !”

“خريستوس كافافيس” ، اليوناني الوسيم، جاء إلى سورية باحثاً عن الذهب…صناديق الذهب ! فليس في سورية مناجم للذهب  ولا للألماس… بل كان في هذه البلاد الجغرافية العظمى أتراك ينسحبون من قناة السويس والحجاز في قطارات تسرع لكي تسبق الهزيمة. وصولاً إلى بلادهم .
كان الجنود والضباط الأتراك قد خسروا الحرب… ولم يبق من إرادة القتال سوى النجاة بالأرواح وبصناديق الذهب .
وكان مقاتلو “الثورة العربية الكبرى” (بالمناسبة ما أضخم الأسم وما أكبر الكارثة النهائية لهذه الثورة !) يهاجمون قطارات الانسحاب في الحجاز والأردن ودرعا وصولاً إلى دمشق.
ولأن الأمل الامبراطوري ، عادة في الهزائم الكبرى، يصبح حلم أشخاص بالانتصارات الصغرى… كان الضباط يطمرون الذهب والحلي المنهوبة، من بلاد الخلافة الإسلامية العظمى، في الطريق، ويعلّمونه بعلامات تسهّل العودة إلى المكان بخريطة وإحداثيات.
“خريستوس كافافيس” كان يزعم أنه  يملك نسخة من هذه الخريطة.
والضباط الأتراك لم يعودوا إلى كنزهم.
والذهب في انتظار خريستوس حتماً.
وهكذا قضى “خريستوس” عشرين عاماً في دمشق، وهو يحفر الاحتمالات، إلى جوار الخط الحديدي الحجازي في قرية “مَسكنَه” جنوب دمشق على الحدود السورية الأردنية، ولم يعثر على شيء سوى بعض الأسنان الذهبية في جماجم تركية.
الموسيقار “صلحي الوادي” كان صديقاً لهذا الرجل العجيب الساكن في باب توما. والذي غدا، بعد كمية لا تُغتفر من اليأس، صاحب دكان صغير لتصليح الأحذية.
وكان صلحي يرى في قصته…جزءاً من الدراما التي يصنعها الإنسان بالحروب ، ويغفر لنفسه أنه صنعها… فيحاول أن يبدع بدلاً منها، الأغنيات والقصص والسخرية !
بعد كمية أخرى لا تُغتفر من التقدم في السن…
وبعد أن أصبحت اليونان مجرد خارطة وطنية للحنين، واستبدلها خريستوس ببضع رقصات وكؤوس وندم…وضع رأسه على “سندانه” في دكانه في باب توما و…مات !!
لا أعرف تماماً مقدار، أو شكل حزن صلحي الوادي على هذا الرجل. رغم أنه حدثني عنه، وهو يضحك من بعض الذكريات الساذجة العائدة إلى أوهام خريستوس… الأوهام، التي كان يقول عنها :” إنها الأجداد القدامى للأمل.”
ولكنني ما زلت احتفظ بشريط كاسيت فيه موسيقى لصلحي “رباعيات” مهداة إلى خريستوس … لا بل مؤلفة من صميم ذكراه. وحين أسمعها أرى كميات من المهابة والحزن والرقصات تدخل من نافذة مغلقة بالغبار، في مكان ما من باب توما .
لم أحضر حفلة لصلحي ، إلا ورأيت خريستوس، كشعاع صغير يمرّره صلحي تحت عصا المايسترو، ولا سيما حين تكون الإشارة في لحظة اللحن، للطبول كي تقرع ، وللصنوج كي ترنّ. وللأصوات المندمجة ان تفتح باب الكون !
………………………….
جاء بعد خريستوس مَن يملك خريطة أكثر وضوحاً للخط الحديدي الحجازي. ولخطوط الهزيمة كلها. ومَن يملك بلدوزرات للحفر وعمالاً إجباريين للسخرة. واستخرج ، من بين أسنان الحرب العالمية الأولى، صناديق الذهب تلك . أخذها ومضى إلى المهاجر… ليس إلى اليونان، لكي نرسم خطاً درامياً افتراضياً لعودة “خريستوس” إلى بلاده . بل إلى تلك الأنواع الكئيبة من هجرة المال و…المآل، إلى ماربيّا في اسبانيا، ومونت كارلو في فرنسا.
“الغريب” جاء إلى بلاد الذهب وعاش فيها ومات فيها.
و”القريب” ذهب من بلاد الذهب وعاش في بلاد الغرباء .
والفارق بين الاثنين… الفارق الفادح، هو ذلك الرجل النبيل الجميل الدافىء الموسيقي: صلحي الوادي.
الفارق هو بين “رباعيات” على ضريح “الغريب” الّفها صلحي الوادي….
فانتصرت الموسيقى .
وبين صمت النسيان الذي سوف يربحه… الذهب !!

18.01.2014

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى