أعطني (النأي) وغنّي…
أعطني (النأي) وغنّي… يقول لك المذيع صارخا متحمّسا في برنامج سجاليّ سياسيّ لامع ترعاه كبرى الشركات وينتظره ملايين المشاهدين : (أيّهما الأفضل ؟,الشاي الأحمر أم الشاي الأخضر...هل صحيح أنّ الشاي الأحمر يسهّل عملية الهضم وينعش الجسم البشري في فصل الصيف… أم انّ الشاي الأخضر هو الأنفع , أليس بفضله نحمي عضلات القلب ونتجنّب كلّ الأمراض الخبيثة, بشهادة قدماء الصينيين….ابقوا معنا بعد هذا الفاصل القصير).
أثناء الفاصل , تتناول رشفة من فنجان قهوتك, وتسأل نفسك : (أنا لا أحبّ الشاي أصلا, فما علاقتي بهذا السجال..!؟).
هكذا تقتحمك السياسة التي تدخل بيتك من التلفاز إن أنت أخرجتها من الباب والشباك … وترغمك على الاصطفاف مع فريق ضدّ آخر – وبرغم أنفك- .. أنفك الذي ملّ روائح الدسائس والاستقطابات الثنائية (كي لا نقول (مؤامرات) ,المصطلح الذي خرج من أنوفنا بعد أن أتخمتنا به الأنظمة الشمولية )… وبات الواحد منّا يحتاط من تحية جاره في الصباح ومغازلة امرأته في الفراش.
هرمنا… ونحن نقيّم الآخر على الطريقة المصرية الشعبية, (أهلاوي ) أم (زملكاوي) ؟.. وغفلنا عن (الزمهلاويين) الممثّلين للأغلبيّة الصامتة – والساحقة لاحقا- لعشّاق التمترس….غفلنا عمّن يكره الفوتبول من أساسه , ولا يحب إلاّ بيته وأطفاله.
هل مازال العالم يحكمه قطبان وتتنازعه قوّتان نظنّ إحداها خيّرة وثانيها شرّيرة حسب أهوائه, هل تخلّصنا حقّا من شاشات الأبيض والأسود في صالوناتنا ونحن نعيش في عصر الألوان..هل (عرفنا الدار بعد توهّم) على قول عنترة عند وقوفه على أطلال الحبيبة؟.
(من لم يكن معي فهو ضدّي), من أراد أن تثكله أمّه فليواجهني …ما هذه (الديمقراطية) الرعناء, من سمّى الرأي رأيا إن لم يكن لديه مخالفون ويتجمّع حوله مختلفون…!؟.
من يحمي حق من لا يطيق الشاي الأخضر ولا الأحمر, خاطئ من يعتقد أنّ الحياة ليست كلّ الألوان … وعنصريّ من لا يكفل للمكفوف حقّه في العيش بلا ألوان.
قال ميخائيل نعيمة : الفيلسوف الصوفي الشهير والشاعر الأكبر في لبنان الصغير :
(سقف بيتي حديد *ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح*وانتحب يا شجر
فإذا الليل طال * والظلام انتشر
من سراجي الضئيل* أستمدّ البصر).
هذا ما قاله وترجمه مؤسس الرابطة القلميّة في المهجر وصديق جبران خليل جبران صاحب القصيدة الفيروزية ذائعة الصيت: (اعطني الناي وغنّي…فالغناء سرّ الوجود).
هكذا نأى نعيمة (اللبناني) بنفسه في عالم تتصارع فيه الألوان وتتقاتل الاثنيات والمذاهب والديانات اختار الصوفية كي تقيه حرّهم وبردهم …وانزوى إلى التأمّل في شؤون الكون وملكوت الله: خالق قوس قزح.
ولكن…عفوا نعيمة, يا صاحب (الغربال) في النقد و(أيوب) في المسرح و(اليوم الأخير) في الرواية و(النهر المتجمّد) في الشعر, ألا ترى أنّ التفرّج إلى الأشياء فروسية كاذبة والسخرية من السجالات تغطية عن العجز على خوضها.
ألست أنت الذي رثا نهرا متجمّدا في روسيا القيصرية عندما كنت تدرس اللاهوت وبكى لعجزه عن السير ومواكبة الحياة , هل نجلس متفرّجين إلى طاولة المقامرين ونكتفي بما يمنحنا إياه الرابحون.
ألا تكون الهزيمة بطعم النصر إن كنّا من فرسان اللعبة والمشتركين فيها ,, أليس الحياد انحيازا للغالب الذي سوف يأتي ومناصرة للظالم مثل شيطان أخرس.
ما غنيمتك من الانحياز لتاجر الشاي الأخضر ضد تاجر الشاي الأحمر؟ والغنيمة هنا تكبر وتصغر , تسعد أو تحزن باختلاف العزائم والهمم وتغليب المصالح.
قال أحدهم في معرض موقفه من الفتنة الكبرى التي ألمّت بالأمّة التي توقف التاريخ لدى بعض أبنائها عند سقيفة بني ساعدة: (الأكل مع معاوية أدسم والصلاة خلف علي أثوب …والجلوس على التلّة أأمن).
هل الأمان في مقاعد الجمهور أم في ساحة الملعب؟ ولكن من هو الحكم؟ ذلك هو السؤال (الشيخ زبيري) المحيّر…أعتقد أنّي قد وقعت في نفس المطبّ الذي أردت نقده في هذه السطور .
*كلمة في الزحام : أعتقد أنّ النأي بالنفس عبارة لا يقولها إلاّ متآمر أو جبان …أمّا التفرّج على عراك مؤيّدي الشاي الأخضر ضد الشاي الأحمر وأنت ترتشف القهوة فقد يفيدك يوما إن دخلت يوما في سجال بين البن البرازيلي والبن الافريقي.