أكشن action
أكشن… كتشف الإنسان النار فأحرقته واخترع السيارات فدهسته والهواتف فأبعدته والأسلحة فقتلته والخرائط فابتلعته ولكنّه اخترع السينما فخلّدته .
مازلت أحفظ تلك الأحجية الفرنسيّة القديمة التي تسأل: من هو الكائن الذي ولد أبكم ثمّ نطق, قصيرا ثمّ استطال,سريعا ثمّ اتّزن…؟
وما زلت أعتبر السينما من خلق الله ذلك أن ّ حجم السحر والإبهار والإدهاش لم يفارق يوما هذا الفن الذي صنّف سابعا ,هل هو مجرّد ترتيب زمنيّ وتزامني أم أنّ للرقم (سبعة) دلالة خاصّة في كلّ اللغات والثقافات والديانات..!؟
هل هي مجرّد صدفة أن يكون(لوميير/الضوء أو النور) كنية للأخوين الذين ابتدعا وطوّرا تلك الآلة العجيبة؟!.
الذين يشتغلون وينشغلون بالفن الرابع أي المسرح (وأنا واحد منهم) كانوا يدّعون الأبوّة والأسبقيّة في فن التمثيل وطقوس التطهير ولم يكلّفوا أنفسهم النزول إلى سفوح جبل الأولمب أصبحوا الآن يستعيرون ويقتبسون ويستأنسون للمواد الفيلميّة في أعمالهم المسرحيّة وكأنّ الآباء عادوا ليلبسوا ثياب الأبناء ويمشّطوا ما تبقّى من شعور رؤوسهم على تسريحة السينما.
ما الذي جعل الأنفاس تحبس والأعناق تشرئب والقلوب تهفو حين تنطفئ الأضواء في الصّالة المخمليّّة الحمراء كي تدور تلك (البكرة) الغريبة عكس دوران الأرض فتنضح حياة وحبّا وأصوات ودموعا تكاد تترك ملحها وآثارها على ذلك المنديل الأبيض الكبير الذي يسمّونه الشاشة.ٍ.ٍ.!؟
من منّا لا يتذكّر قصيدة سينمائيّة اسمها (برديسّو)وأسطورة تعتمر قبّعة وتمشي بخطى سريعة وحذاء مفلطح على إيقاع موسيقى مبهجة اسمها شارلي شابلن,أسطورة أضحكت وأبكت وسخرت وأمتعت لأنّها خاطبت وجدان كلّ الناس .
كيف لعشّاق السينما أن ينسوا وسامة (غاري كوبر) ورشاقة (ستيف ماكوين) وحضور( كورك دو غلاس) وسحر( مرلون برندو) …وجمالا وفتنة تسري كالوباء, من مارلين ومادلين و ريتا وسارة وكاترين…هكذا-ومن شدّة قربهنّ- نذكرهنّ بأسمائهنّ الصغيرة ودون ألقاب ..وكأنّنا نلتقيهنّ كل صباح في مقهى الروضة الدمشقي أو الفيشاوي المصري أو اليونيفير التونسي .
من شدّة غرابة السينما أنّها أصبحت مرجعا للواقع وليس العكس ..! كيف لا وهي أكبر من واقع يصغر أمامه التلفزيون ويقترب منه المسرح.
لقد سمّى الناس أولادهم وتسمّوا بأسماء نجومها وامتهنوا أعمالا أوجدتها السينما وتحدّثوا لغة لم توجد إلاّ في السينما وأحبّوا حبّا لم يوجد إلاّ في السينما بل ومارسوا عنفا لم يوجد إلاّ في السينما.
كيف استطاع هذا الذي يمشي على قدمين أن يخبّأ كلّ هذا السحر في علبة أو شريط ويحمله إلى كلّ بقاع الأرض ثمّ يخرجه كحمامة تطير من قبّعة ساحر أمام عيون الأطفال.
لا كلام إلاّ للصورة في السينما ولا حكم إلاّ للعيون ولا مناص للواقع إلاّ الخيال ,إنّه فنّ يجمع ويزاوج بين العتمة والضوء ويجعل المقاعد الخلفيّة أكثر وجاهة من المقاعد الأماميّة.
اشتمّت بلاد عربيّة كثيرة عبق هذا الفن منذ نشأته تقريبا ووثّقت آلة التصوير الحروب والمجازر والانتصارات والانتكاسات بحسب العين التي تختفي خلفها لكنّ تلك الآلة ظلّت تلبس حجابا أو برقعا وتخفي أكثر ممّا تظهر ,أي أنّها تؤدّي عكس وظيفتها تماما.
ما الذي جعل البساط الأحمر في مهرجانات العالم لا يعرف الأقدام العربيّة إلاّ فيما ندر ؟وما الذي جعل الأوسكارات لا تلامس الأيادي العربيّة ؟وما الذي جعل الشاشات الكبيرة في شمال العالم وغربه لا تدوسها حوافر الخيل العربيّة؟ وما الذي جعل لغة شادي عبد السلام ويوسف شاهين ونوري بوزيد و اسماعيل انزور وإبراهيم شدّاد ورندة شهّال والأخضر حامينا تغيب عن شاشات العالم ولا تطلّ برأسها إلاّ خجلى كخادمة في صورة عائليّة..؟
لدينا مناجم دراميّة هائلة في حياتنا وفي مماتنا ولدينا أموال بوزن الكرة الأرضيّة ولدينا طاقات إبداعيّة تربك سادة هذا الفن في العالم المتقدّم ولكن لدينا خوف من الكشف عن ذواتنا ومن مصارحة ذواتنا ومن الرّهان على ذواتنا كشخص يعتقد أنّه مشوّه ولا يريد أن ينظر إلى نفسه في المرآة.
كتبت هذه السطور متحسّرا على مهرجان دمشق السينمائي الذي فقدنا وافتقدناه وأمام احدى ملصقاته التي تمثّل لوحة كلاكيت أمام بوّابة تاريخ تقول للزمن:(أكشن)….وتعلن بداية فيلم طويل…….لكنّه موجع.