أنا وأبي
أنا وأبي… عادة ما يكثر فاقد الرغبة في الكتابة – مثلي الآن – من الاستطراد، كذاك الذي كان يتلمّس جيوبه بحثا عن القدّاحة والسيجارة في فمه، ثمّ نسي ما كان يبحث عنه، وسأل صديقه “لقد زاد وزني أليس كذلك؟
إنه الإنسان، وعلى ذكر الإنسان، مازلت أتذكّر رفيق المدرسة الابتدائية الذي لطمني أثناء اللعب، على إنسان عيني.. نعم، “إنسان عيني”، هكذا قالت آنسة اللغة العربية في المدرسة، ثمّ أضافت في تقريرها الموجّه للمدير أنّ “إنساني”، أي إنسان عيني، قد أصيب بخدش وينبغي عرضي على طبيب عيون.
جاء موعد الفحص أمام الطبيب وكنت بصحبة أبي، جلست على الكرسي مقابل تلك اللوحة التي لا Eتحتوي إلاّ على حرف واحد من اللغة اللاتينية ثم يتكرّر في شكل قنطرة أو خنفساء أو فكّ كلب، يتناسل ويصغر حتى يختفي في السطر الثالث أو الرابع.
أشار بعصاه “في أيّ اتجاه يشير هذا الحرف”؟ فارتعبت وخفت أن يضربني إن لم أعرف الإجابة، لكنّ والدي أنقذني في اللحظة المناسبة وفي غفلة من الطبيب ذي النظارات السميكة، وأشار لي أبي بيده خلسة نحو الاتجاه الصحيح، كانت إجابتي الأولى “صحيحة”، وكذلك الثانية وحتى العاشرة، لأنّني كنت أثق بكلام والدي ولا أعصي له أمرا.
خرجت أنا وأبي من عيادة الطبيب مبتهجين لتقرير الطبيب، وأكلنا طبقا مليئا بالتوابل في المطعم الوحيد بالبلدة، والمليء بالذباب والدخان والطاولات الفارغة.. قال أبي حين سألته عن عدم وجود زبائن، إنّ صاحبه من أمهر الطباخين في البلدة، لكن الناس لا يعرفون طعم أفواههم.
ذهبنا إلى دكان “سليمان” حلاّق أبي المفضّل، والذي أمطرني أسئلة عن أسماء عواصم البلدان بينما تحصد الماكينة الفضية بيده شعر رأسي جيئة وذهابا، وبطريقة عشوائية، حتى أصبح رأسي يشبه حبة الجوز.. وكان ذلك في زمن موضة البيتلز والشارلستون.. غضبت كثيرا، وكدت أجهش بالبكاء قهرا فارتأى أن يحلق لي على الزيرو مثل كوجاك الذي أحبه، وهو يعاتبني على جهلي بأسماء عواصم كثيرة.
استرضاني أبي بصحن من هريسة اللوز وأنا أدير ظهري إلى المرآة، ووعدني بالخروج معه في رحلة صيد. طلبت مني أمي أن أقسم بأن لا أمشي قبالته أثناء الخروج إلى الصيد، لأنه ضعيف النظر وقد يحسبك أرنبا بريّا، فأقسمت، وكاد أبي يطلق النار عليّ، بالفعل، حين لمحني أركض أمامه مع كلبنا الكسول “طرزان”، لكنّه قال لي بأنه يمزح ويحب إطلاق النار كي لا يعود بخراطيش ممتلئة.
اشترى أبي في طريقنا أرنبا بريّا وقنصا كثيرا، وقال لي “لا تخبر أمك بالموضوع”، أخبرت أمي بالموضوع طبعا، فسمعتها تشكره على مهارته في القنص وتنصحه بعدم اصطحاب النقود في رحلة الصيد كي لا يضيّعها أثناء الركض خلف الطريدة.
أبي يرقد الآن إلى جانب أمي دون بندقية ولا نظارات تحت شاهدتين سميكتين من الرخام والأدعية والحروف، وأنا أنظر بإنسان عيني الجريح خلف نظارتين سميكتين وأطلق الحبر في الفراغ، لعلّني أصيد فكرة بريّة، كي لا أعود إلى البيت بخراطيش ممتلئة حبرا وغيظا في قلمي.
قال صديقي المرحوم إياد شاهين“لا أحب الأطفال لأنهم يكبرون”، وأنا مازلت أنسى أسماء العواصم التي عرفتها.. ونسيت أن أكبر أيضا يا أبي.