كلمة في الزحام

أين في عينيك ذياك البريق

أين في عينيك ذياك البريق.. كمامة “التباعد الاجتماعي” تجعلك في مأمن من الدائنين في الأسواق، وتقيك شر الفضوليين، بفضل ما توفره لك من تمويه على ملامح وجهك وسط زحام الحجر الصحي.

ومن فضائل هذا القناع التنكري أنه يجعل واحدا، مثلي، يذهب بعيدا في ممارسة هواياته، والتحدث إلى نفسه بصوت عال وصريح، دون أن يتنصت عليه أحد، خصوصا إذا كنت من أصحاب الكمامات العادية أي تلك التي لا تحمل علامة فارقة في اللون أو الشكل والتصميم.

كرنفال احتفالي فرضه علينا فايروس كورونا، وجعانا نمحي الفوارق الطبقية والثقافية والاثنية بيننا فلا يكاد يظهر من ملامحنا شيء غير الإشارات والهمهمات.. حتى أني ابتسمت البارحة، ومن خلف قناعي، في متجر التسوق إلى شخص، وأشرت إليه أدبا، بالتقدم قبلي نحو عبوة ” السائل المعقّم” ثم اكتشفت، لاحقا، ومن خلال طول اظفر إصبعه الصغرى، أنه جارنا “فلان” الذي لا يطيقه أحد في البناية.

اللعنة على هذا السائل المعقّم، لقد جعل أصابعي طرية ناعمة مثل سيدة أرستقراطية فلا تقوى على كبس برغي أو فتح جهاز موبايل ثم أني أتشارك في استعماله مع جاري الغليظ ذي الظفر الطويلة في إصبعه الصغرى.

الكمامات أخفت ـ بدورها ـ الروائح والأسنان والابتسامات الصفراء، وكتمت العبارات النابية التي كنت أرددها صارخا وغاضبا في الزحام.. وجعلتني أفلت من الدائنين والفضوليين وعشاق الحوار في هذا الشهر الفضيل.

لا يكاد يعرف الواحد منا الآخر، وسط “فوضى حواس كورونا” إلا من خلال مشيته أو طريقة تبضعه في الأسواق.. أمس اهتديت إلى صديقي البخيل الذي أريد منه مبلغا ماليا، وذلك من خلال الكمية القليلة التي اقتناها من الفلفل والطماطم.. وكذلك عرفني دائن آخر، وفي نفس المكان، من خلال رنة موبايلي.

كورونا جعلتنا خصوما وأعداء بقدر ما جعلتنا أحبابا وأصدقاء. الأقرباء يتباعدون، والغرباء يتواددون.. فكأنما هذا الفايروس الأحمق الأعمى، رسول سلام، وكأنما الخوف رباط محبة في أوجه حالاته.

كورونا جعلت أرقى دور الأزياء العالمية تهتم إلى تصميم أغرب الكمامات وأطرفها، كما جعلت جارتي خديجة الفقيرة، تصنع وتخيط أدفء وألطف الكمامات كي تعيل أطفالها.. تلجم من ثرثرتي وصوتي العالي في الطريق، وتجعل بيني وبين الدائنين ” سدّا” وتغشيهم فإذا هم لا يبصرون.

القناع الكوروني خلق مني بطلا أشبه بشخصية “زورو”، ذاك الذي يتدخل في أحرج الأوقات، ينقذ المواقف ثم يمضي خلف قناعه دون أن يدري بهويته أحد.

علمني قناع كورونا أن أفعل ما يجب فعله دون أن يتفطن لملامحي أحد، وكذلك يسلك هذه الطريق أناس آخرون وكثيرون.

لنتدبر  في هذا الدرس الذي قد تأتي به السماء مرة كل مئة عام.. أعتقد أن “دائنا ما” قد يعرف ” مديونا ما ” من خلال بريق يشع من خلف القناع.. لكنه قد يغض الطرف.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى