كتاب الموقعكلمة في الزحام

أيها المفكّر ..أين تضع لحيتك حين تخلد للنوم …؟!

أيها المفكّر ..أين تضع لحيتك حين تخلد للنوم …؟! (أين تضع لحيتك يا جدّي عندما تخلد للنوم، تحت الغطاء أم خارجه ؟)، سألت الحفيدة جدّها الممدّد على فراشه، قبّلته ثمّ غادرت إلى غرفتها دون أن تنتظر الإجابة.
كان السؤال غريباً على العجوز الذي اعتاد الإجابة بأريحيّة كاملة عن كلّ التساؤلات البريئة والماكرة التي تطرحها الطفلة المشاكسة متباهياً بأفكاره المجعّدة ومنطقه الأشيب .
لا، لم يكن السؤال غريباً فقط، هذه الليلة، بل كان صعباً، مربكاً، محيّراً ومحرجاً، ممّا جعله يتقلّب مراراً في فراشه وهو يجرّب كلّ وضعيات النوم ويسأل نفسه: (صحيح، أين كنت أترك لحيتي، هل أكشفها أم أخفيها…!؟).
ظّل الجدّ طوال الليل يصارع الغطاء وشياطين الأرق … ويلعن الساعة التي أطلق فيها لحيته.
هكذا ورّطته لحيته في سؤال غير متوقّع لم يجد له جواباً شافياً ووافياً… ومن طفلة لم و- لن – تنبت في وجهها الناعم الصغير لحية، حتى تحسن التعامل معها يوما.
قادت هذه الحادثة الجدّ الطيّب إلى قضاء الليلة وهو يفكّر في كلّ ما ينبت من شعر على رأس الإنسان … والموزّع بين القبّعة والذقن وما بين الأنف والشفة العليا.
حسنا، قال العجوز، لنفكّر قليلاً كي يكون هذا الرأس جديراً بحمل هذه اللحية المربكة… أليست أكثر ما يميّز الفلاسفة عبر التاريخ رغم وجودها لدى عجائز القردة وذكور الماعز … كفانا شططاً، لنعد إلى اللحية (الآدميّة)، صحيح، لماذا يطلق الفلاسفة لحاهم؟! هل لأنّهم لا يجدون الوقت الكافي لحلاقتها، أم للتميّز والدلالة على أنّ غزارة الأفكار من غزارة الشعر.
إذا كان الأمر كذلك فماذا يفعل الأمرد والأصلع والأقرع من المفكّرين؟ وكيف نميّزهم من إنسان ما قبل التاريخ وأمواس الحلاقة، من المجانين والمشرّدين، من المجرمين و(البلطجيّة) الذين يخفون تحتها آثار السكاكين.
شتّان بين من تعلن لحيته وقاراً روحيّاً أو إرثاً فكريّا أو ثقلاً اجتماعيّا وبين من قال فيهم الشاعر ابن الرومي في تصوير كاريكاتيري ماسخ:
(إن تطل عليك لحية أو تعرض *   فالمخالي معروفة للحمير
علّق الله في عذاريك مخلاة     *     لكنها من دون شعير ).
استدرك الجدّ قائلاً : لكن هذا الشاعر كان أمرد، نظراً لأنه من أب رومي وأمّ فارسيّة وهو بذلك يبطن نزعة شعوبيّة عنصريّة كما جاء في رثائه للبصرة التي أحرقها الزنج في ثورتهم.
وقف الإنسان الحديث مفكّراً في كيفيّة التعامل مع هذا الشعر الزاحف من جسمه، والذي يهدّد بإعادته إلى الهيئة البدائية، فاخترع المشط والمقصّ والشفرة والسيشوار و(الكريمات) والأصباغ وغيرها من أساليب(تكريم) الشعر الذي تختفي تحته الأفكار والآراء…. وبرزت حرفة في الأسواق اسمها: صالون حلاقة.
تعدّدت التسريحات والأشكال والتصفيفات بتعدّد الميولات والأهواء فصار يسهل تصنيف الرجال من خلال الذقن والشارب والسالف وقصّة شعر الرأس…. وحتى الصالون الذي يتردّد عليه، فالكثير منّا لا يحني هامته أو يسلّم ذقنه لأيّ كان.
أمّا حوّاء (التي كانت تغطّي صدرها وظهرها بشعر غير مجدول)، فقد عفتها الطبيعة من اللحية والشوارب، فسّرها بعض الذكوريين بعبارة: (كوني جميلة واسكتي)…. فهل يحتاج الواحد إلى شارب كي يقسم أو لحية كي يفكّر ..!؟.
امتحنت المرأة بشعر الرأس الذي احتارت فيه بين التلوين والتقصير والإخفاء أو السفور… لكنها ظلّت دائماً تمتثل لرغبة آدم الذي قال فيها مغازلاً منذ الحالة الرعويّة الأولى في ” نشيد الإنشاد “: (شعرك قطيع ماعز، يتسلّق جبل جلعاد) … وظلت إلى يومنا هذا تختاره حلاّقها الخاص وتحبّذه على بنات جنسها.
وحدها المقاصل وحبال المشانق عبر التاريخ، لا تفرّق بين التسريحات، تقرأ وتحاكم ما تحت الشعر من نوازع الخير والشر.
لم يكن رأس غاندي الأصلع الصغير يحتاج إلى شوارب كي يقسم على انتصار الشمس، ولا إلى لحية كي يفكّر في مصير شعبه … ولا إلى حفيدة تسأله سؤالاً مربكاً … لقد كان وما زال ينام وأفكاره تحلّق فوق الغطاء لتعانق مئات الملايين من أحفاده السلميين والمسالمين فوق هذا الكوكب.
فكّر الجدّ في حلق لحيته كي يتخلّص من سؤال حفيدته، لكنّه تراجع بعد أن أمسك شاربه وأقسم على المضيّ في التفكير.
وها أنا ذا أطلّ عليكم بهذه الصورة  فوق هذه السطور… كي لا أتّهم يوماً بالتفكير الزائد أو اليمين الكاذب.

23.09.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى