كلمة في الزحام

أي دمعة حزن لا لا.. لا

أي دمعة حزن لا لا.. لا..ـ اسمع أيها الشاب، ” هما كلمتين خفاف نظاف”.. أنا لا أزوج ابنتي لشخص لا يحب عبد الحليم حافظ

ـ أنا عبد الحليم اسماعيل شبانة، بشحمه ولحمه يا عم.. ولا ينقصني غير الحقن بالبلهارسيا، والسباحة في الترعة الأسنة إن شئت.

كان هذا آخر حوار بين الكاتب محمد الماغوط، ووالد خطيبته قبل زواجه من الشاعرة سنية الصالح، والتي قالت عنه يوما “أنت كما الزرنيخ يا سيدي.. أتجرعك كل يوم ولا تنتهي”.

كان عقدا يلتزم فيه الزوج بشرط واحد، وهو أن يحب العندليب، ولا شيء غير العندليب، كمهر يتيم.. وهل كان الماغوط، ـ ملك الأرصفة ـ يمتلك شيئا آخر غير الوفاء بهذا العهد؟

تذكرت هذه الحادثة منذ أسابيع، وعشاق عبدالحليم ـ الذين بدؤوا بالانقراض ـ يحيون الذكرى الثالثة والأربعين، على وفاته بإحدى مستشفيات لندن إثر معاناته مع مرض عضال تسببت فيه تلك الجرثومة الخبيثة التي كان الماغوط يتمناها لنفسه في سبيل الفوز بالزواج من سنية الصالح.

استحضرت كل أغاني هذا الفتى الأسمر النحيف المتأوه العليل، وكيف استطاع أن يأسر جمهورا يمتد من الماء إلى الماء، وكيف أن الكثيرات فكرن في الانتحار اثر وفاته عام 1977.. وكنت ـ وقتها ـ أردد أغانيه برفقة أختي الكبرى، لكنني لم أفكر في الانتحار طبعا، ذلك أني لم أكن أحب سوى الطعام والبيسكليت، وتسلق الأشجار.

كنت أقف أمام عصا المكنسة مشبها إياها بالميكروفون وأغني ” زي الهوى يا حبيبي” وأقلده في كل حركات يديه فأُحظى ببعض الإعجاب والثناء والحلوى والقبلات، من صبايا الجيران.. وبدأ حب عبد الحليم يتسرب ويسري في دمي مثل البلهارسيا.

اكتشفت مع حليم شخصا آخر اسمه بليغ، الذي بدأت تقليده في مراهقتي، في شعره الأشعث الكثيف، وجلسته العجيبة وطريقته الهمشرية في التدخين.. وعشقه لوردة  الجزائرية. نعم، لقد أحببت في حارتنا ـ من طرف ثالث ـ فتاة متواضعة الجمال لمجرد أن اسمها “وردة”.. وكنت أعزف العود بشكل سيء ومخجل.

وتهت بين حليم وبليغ، بين حب “وردة” وصبية رعناء اسمها “نادية “(وقد سميتها “ميرفت” في دفاتري الخاصة)، لكن أبي ” لم يكن فوق الشجرة”.

كان العندليب قدوتنا، وكنا نقلده حتى في سعاله، وننصب العداء لكل من يعاديه في الوسط الفني المصري.. لست أدري لماذا ما زلت أحمل بعض المآخذ على أم كلثوم وأنظر بعتاب لهاني شاكر.

نحن ـ عشيرة عبدالحليم حافظ ـ بدأنا بالانقراض فعلا، وهاهو صديقي الكاتب السوري سامر اسماعيل، يذكرني ب “معلمنا” في تسريحة شعره، تذبيلة عينيه، حشرجة صوته، وعوده الذي يسافر معه في الأزمات.. صديقي سامر “أي دمعة حزن لا لا..لا “.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى