تحليلات سياسية

إنفجارُ القدس وإنفراج المنطقة…أي علاقة؟

 

لم يعرف العالم شعباً كافح بكل الوسائل ضد مُستعمر أو محتلّ أرضه نحو قرن كامل، كالشعب الفلسطيني. فهو لم يكلّ ولن يملّ في التمسك بأرضه وبذل دمه وروحه ثمنا لها، خصوصاً بعد أن ضربت إسرائيل بكل إتفاقيات السلام عرض الحائط رغم التنازلات الكبيرة التي قدّمتها السلطة الفلسطينية منذ مدريد وأوسلو حتى اليوم، والتنازلات الأخرى التي قدّمتها أيضا حركة حماس أكثر من مرة مُباشرة أو عبر المفاوضات التي رعتها القاهرة

رسّخ الشعب الفلسطيني القناعة لديه، بأن إسرائيل تستغل كل تفاوض لتزيد القضم وتمدّد سرطان المستعمرات وتهوّد الأرض والتاريخ والجغرافيا ، بدلا من الإقدام على أي تنازل ولو طفيف.  فهذا السرطان ازداد أكثر من 700 مرة منذ أوسلو بدلا من أن يتوقف. ولذلك فإن الشعب الإستثنائي في نضاله، يهبُّ بين عام وآخر ليذكّر المُحتلّ بأن لا استقرار له طالما لم يعترف بحقوق الشعب المقهور، والذي لا يُطالب بأكثر من دولة غير مقطّعة الأوصال عاصمتها القدس الشرقية، ومفتوحة الحدود وقادرة على العيش بكرامة

يستطيع ضميرُ العالم أن ينام، كما دأبُه منذ أكثر من 73 عاما، تاريخ تقسيم فلسطين، ويستطيع أن يدعم علنا الظُلم الإسرائيلي ( كما تفعل واشنطن)  أو في الكواليس ( كما يفعل معظم الغرب وبعض الشرق والعرب) ، لكن الشعب الذي اعتُقل أكثر من مليون شخص منه منذ العام  1948، والذي يتعرّض بين فينة وأخرى لأكثر الهجمات وحشية، ولأبشع أنواع العنصرية التي لا توفّر حتى الأطفال،  لم ولن يقبل الترويض، حتى لو بقي لوحده دون أي غطاء عربي حقيقي. فهو صار يعرف المُحتلّ وأساليبه، وبات أكثر خبرة في مواجهته وزرع القلق والشكوك بين شعبه وجيشه.

لكن لماذا الانفجار في وقت الإنفراجات؟

كما في كل مرة يتعرّض الشعبُ الفلسطيني لهجمات المستوطنين ودعم جيش الإحتلال لهؤلاء القادمين من أصقاع الأرض يخترعون تاريخا ليس لهم ويمارسون أسوأ أنواع العنصرية ضد أبناء الأرض، يجب البحث عن أسباب الإعتداء الإسرائيلي، ذلك أن الهبّات الشعبية هي دائما ردة فعل، على فعلٍ اسرائيلي يستغل لحظات التوتر او الصفقات الدولية، ولذلك يُمكننا الآن التفكير بالأسباب التالية:

  • أولا ما يجري في القدس، وتحديدا في حي شيخ جرّاح، هو إستكمال لمخططات إسرائيل منذ عهد عصابات الهاغانا والأرغون وشتيرن وبلماح وبيتار وغيرها…فهذه المخططات التي تستند الى روايات دينية وتاريخية يهودية ( مشكوك في كل أمرها وفق المؤرخ اليهودي إسرائيل فنكلشتاين وغيره)، لا تقبل بقيام دولة فلسطينية، ولا بحدود جغرافية، وتريد من هذا الشعب المقهور والصامد أن يكون مجموعة مواطنين من الدرجة الثانية مشتتين وقابلين بيهودية الدولة، ناهيك عن تهجير قسم منهم ( وبينهم سكان شيخ جرّاح ومناطق أخرى من القدس والضفة) الى مناطق أخرى أو الى الأردن( من هنا قلق عمّان الحالي وتحركها في كل الاتجاهات).
  • ازدادت وطأة هذه المخططات الأسرائيلية مع إزدياد تأثير التيار الديني المسيحي المعروف بالإنجيلي الجديد، أو المسيحي- الصهيوني، والذي بات عدد أنصاره يربو على 100 مليون نسمة في أميركا وخارجها، والداعي لدعم إسرائيل والسيطرة على القدس واعتبارها عاصمة أبدية لاسرائيل وتشريع إحتلال الجولان، لأن في كل ذلك مقدمة لعودة السيد المسيح. وهو تيار نبذه الإنجيليون الحقيقيون ومعظم الطوائف المسيحية العريقة. وهو الذي يحيط بالرؤوساء الأميركيين منذ عقود طويلة وتعزز خصوصا في عهدي جورج بوش الأبن ودونالد ترامب.
  • بنيامين نتنياهو الذي صار على بعد خطوات قليلة من المُحاكمة والسجن بسبب الفساد، يعمل جاهدا على تحويل الأنظار الى الخارج على أمل تشكيل حكومة وحدة وطنية بذريعة الخطر الداهم ومنع خصومه من تشكيل أي حكومة أخرى، ذلك أنه لو فقد منصبه سيدخل حتما الى السجن. فمن مصلحته أن يرفع مستوى التصعيد الحالي الى أقصاه حتى ولو أنه يجاهر بعدم رغبته بحرب كبرى ضد غزة وغيرها. الحرب في غزة بالنسبة له أسهل من الحرب المُباشرة مع إيران أو حزب الله. لعله كان يعتقد بأن عملية التطبيع التي قادها مع دول عربية ستمنع الشعب الفلسطيني من الانتفاض ضد عنصريته وعنصرية المستوطنين. لكنه حتما مُصاب بالصدمة خصوصا أن الرأي العام العربي أبدى تعاطفا كبيرا في معظم الدول العربية مع الشعب المُضطهد وفق ما نرى في وسائل التواصل الإجتماعي والإعلام، الاّ ما ندر.
  • مع تقدّم المفاواضات الدولية-الإيرانية حول استئناف الاتفاق النووي، وتعدد الإشارات الإيجابية حيال الإنفراج الأميركي-الإيراني، والإيراني السعودي، والتركي العربي، تحتاج إسرائيل الى عرقلة هذا الإنفراج الإيراني بأي ثمن، خصوصا أن الإدارة الأميركية الجديدة لا تستجيب لكل طلباتها لإدراكها بأن لا مناص من التفاوض. ولذلك فإن نتنياهو والمسؤولين الاسرائيليين الذين ينحرفون كل عام أكثر فاكثر صوب اليمين المتطرف، يريدون تصوير الوضع الداخلي على أنه يتحرك بأوامر خارجية وتحديدا من إيران.
  • صحيح أن أميركا سارعت الى إعلان وقوفها الى جانب اسرائيل وشجبت إطلاق الصواريخ من غزة، لكن من يُدقّق في الاتصالات الأخيرة بين الجانبين الأميركي والاسرائيلي يشعر بأن ثمة مشكلة ثقة بينهما، وبأن واشنطن تسعى لاقناع القيادة الاسرائيلية بوقف التصعيد وبعدم عرقلة مشاريعها التفاوضية، ويقال إن الأجواء بين الجانبين غالبا ما تتشنج منذ فترة، الأمر الذي دفع بعض المسؤولين الاسرائيلين الى طلب عدم التدخل الأميركي في قضية القدس… لذلك فإن الجانب الاسرائيلي يعتبر أن التصعيد الداخلي يخدم حركة لوبياته في أميركا والغرب من منطلق حماية إسرائيل، ويُحرج إدارة بايدن.
  • إن دخول غزة على خط الهبّة المقدسية، وإطلاق صواريخ على مناطق إسرائيلية، يأتي في ظل هذه الأجواء الدولية، وأيضا بعد فترة قصيرة على تأجيل الانتخابات الفلسطينية. لا شك أن الفصائل الإسلامية في غزة، تُريد من جهة نصرة الشعب الأعزل في القدس والضفة، وترغب من جهة ثانية بالقول إنها ما تزال صاحبة اليد الطولى عسكريا وسياسيا أيضا، وإن ما باتت تملكه اليوم من قوة دفاع أو ردع، مُرشّح لأن يغيّر معادلات كثيرة، وأنها الأحق بالتالي بقيادة الشعب الفلسطيني. لذلك اختلفت الآراء بين قائل بأن الهبة المقدسية مهمة لوحدها لجذب تأييد عالمي وإحراج إسرائيل وداعميها وان دخول القوى الاسلامية الغزّاوية بسلاحها على الخط، قد يؤثر سلبا، وبين من يؤكد العكس تماما وهو أن هذه المفاجآت الصاروخية تزيد بلبلة الجانب الاسرائيلي وتوسع الشرخ بين المدنيين والجيش، وتضاعف الشكوك بقدرات اسرائيل العسكرية، وتُحرج العالم.

لا شك أن الوضع بمجمله معقّد وصعب، فالشعب الفلسطيني الذي يثير إعجاب كل إنسان حُرّ في هذا العالم، بإنتفاضته الحالية، يُدرك أن إسرائيل لا تستطيع القبول بالهزيمة حتى ولو هضمت جزءا منها، ولذلك فإن القيادة الاسرائيلية ستزيد القمع وسترفع أكثر فاكثر الغطاء عن المستوطنين الحاقدين في محاولة لتهجير أهالي شيخ جرّاح،  وستوسع استهدافها لغزة، وستحاول عبر دعايتها الإعلامية تصوير الإمر على أنه حربٌ بينها وبين أنصار إيران في الداخل.

من جهتهم، سيحاول الفلسطينيون أن يجعلوا من هبّتهم المقدسية وفي الضفة، عنوانا لبداية مرحلة جديدة، ربما لأنهم تعلّموا من التجارب القاسية في تاريخهم المُرّ، بأن أي تخلٍ ولو مؤقت عن بيت أو مسجد أو كنيسة أو شجرة زيتون، سيكون دائما.

هي لحظة تاريخية بإمتياز، ستفرز لا شك، حالة جديدة من الكفاح الفلسطيني المستمر منذ قرن كامل ضد كل مستعمر ومحتل. حتى ولو كان الثمن باهظا جدا. وهي لحظة تاريخية بإمتياز شرط أن يُبقيها الفلسطينيون بخدمتهم ويمنعوا أي  طرف خارجي من استغلالها في لحظة الإنفراجات والمفاوضات الإقليمية والدولية.

خمس نجوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى