احترنا يا أقرع…
احترنا يا أقرع… هل صحيح أنّ ألف يوم بحاكم ظالم, هو أفضل بألف مرّة من يوم واحد دون حاكم..؟
ينظر إلى هذه المقولة “المكعّبة” على أكثر من وجه, إنها أشبه بحجر النرد الذي توظّف فيه كل رمية في الخانة التي تناسب اللعب على طاولة المصالح .
قد يثلج هذا الرأي صدور الطغاة والمستبدّين (صدورهم الخالية من القلوب طبعا) فيجدون فيه توقيعا على بياض فوق صكوك الظلم والتشبّث بالكراسي تحت ذريعة أنّ الرعيّة دون راع تصبح فريسة لذئاب الفوضى والانفلات وتمسي أشلاء في غياب عصا سيدها وكلاب حراسته.
ما يزيد من خطورة هذه المقولة “الفزّاعة” هو أنّ ظاهرها يوحي بالحكمة والنصيحة والمسؤوليّة من خلال صيغة حاسمة جازمة تكاد لا تقبل الطعن أو التشكيك, فتدعو سامعها إلى التبصّر والتفكّر قبل أن “تسوّل له نفسه” المساس من هيبة السلطان وأمن البلاد والعباد.
أمّا الأخطر من ذلك كلّه فإنّ مطلق هذه “النصيحة”، على ما يبدو، هو من أولئك الذين يستأنس الحكّام لآرائهم ويعملون بمشورتهم مقابل عيش آمن ورغيد.
لو تأمّلنا في النصف الملآن من هذه الكأس، التي لا نظنها تحوي شرابا زلالا، لاعترفنا بأنّ المجتمعات عبر تاريخها تحتاج إلى من يسوسها ويحمي أفرادها من جموح في غير محلّه, يردع النفوس “الأمّارة بالسوء”, يقلّم الأظافر ويقتلع المخالب المتربّصة, على اعتبار أنّ في الإنسان نزوع فطريّ نحو التغوّل وتمجيد الذات …كما أنّ السفينة لا يقودها إلاّ ربّان واحد … والطبخة تفسد إن تزاحمت عليها أيادي الطهاة وتضاربت في طعمها المنكّهات.
الحقيقة الثانية هو أنّ حسّ القيادة من الملكات التي لا تتوفّر عند كل البشر, بل ولدى المخلوقات جميعها… لننظر في القطعان والأسربة من الكائنات الأخرى التي أودعت أمرها إلى أقواها وأفحلها وأسرعها وأكثرها تدبّرا في شؤون الجماعة…ولكن…..هل أنّ جميع الحكّام والمسؤولين والقياديين في بلادنا العربية لهم من تلك المواصفات الآنفة الذكر لدى أيّ “زعيم” يقود فصيلته من الطيور أو الخيول أو النحل أو النمل أو حتى الذئاب ..؟!.
لقد شاهدنا غياب الدولة وضعف الحاكم في مناطق وبؤر كثيرة متوتّرة من هذا العالم حيث تسكت أفواه الحكماء وتتكلّم أفواه البنادق فيغنم القوي ويموت الضعيف.
شاهدنا أيضا وشهدنا حضور الحاكم ببطشه وجبروته مع “حضور” الدولة و”غياب” مؤسساتها وقوانينها، فكانت النتيجة واحدة: بطون تكبر في الحالتين: إمّا تخمة واستكراشا أو مجاعة وأوبئة, سلاح موجّه من فرد إلى فرد أو من جماعة لجماعة, أمّا الغائب الأكبر فهو القوانين والتشريعات التي ينبغي لها أن تكفل أمن وحرية كل الأطراف فتضمن هيبة الدولة وحرمة الفرد…. كيف ينزّه القانون ويحترم القانون من جاء إلى السلطة دون نص قانوني …لا يهمم مادام خياطو القانون ومفصّلوه ينتظرونه في بهو القصر.
اسمحوا لي أن أنهي هذه السطور وأبدأ هذه الانطباعات ببعض أخوات “كان” التي ترفع الأسماء جميعها, وما علينا إلاّ اختيار أنبلها وأسماها قبل أن نصبح في خبرها كخبر “أمّة أخرجت للناس”:
مازال بعض حكّامنا يعتقدون بأنّ الأمن والكرامة والحرية خطوط متوازية لا تلتقي أبدا, وإذا التقت فلا حول ولا قوة إلاّ بالله, ما فتئ بعض علمائنا ومثقّفينا يبرّرون سكوتهم بقولهم: “كيفما كنتم يولّى عليكم” فيردّ عليهم خصومهم على الموائد المستديرة :”الناس على دين ملوكهم”, وما برح ساستنا يديرون ظهورهم إلى الناس ويثبّتون عيونهم على الكرسي (على نقيض الديمقراطيات المتقدّمة) وما انفكّ السلفيون والمتشدّدون يذكّرون بأفعال الماضي الناقصة … أمّا الإعلام فقد انحاز لأخوات “إنّ” وأدوات التوكيد من تلك التي ترفع الخبر على شاشاتها, مثل: “إنّ” و “أنّ”, “لكنّ” و “كأنّ”, “ليت” و “لعلّ”.
*كلمة في الزحام:
فضلا على داء النقرس فالحاكم المثالي في بعض بلداننا يجب أن يكون أقرع, لا يحني هامته حتى أمام موسى الحلاّق … ويحتار الناس في تقبيله, ولا بأس أن يصاب بالطرش فلا يستمع إلى نصيحة, أمّا المواطن المثالي فهو ذاك الذي يضع طقم أسنان فلا ينخره ضرس ولا يضطرّ لفتح فمه في عيادة طبيب…ومن المستحسن أن تسحب كل أعصابه.