كلمة في الزحام

الأرض الطيبة

الأرض الطيبة .. متى يعلم العالم أنّ السودان ليس ذلك البلد الذي يتلصص فيه جنرالات العسكر على بعضهم بعضا في الليل بعيون نصف مفتوحة، ويتحين كل واحد فيهم فرصة أن يسبق الآخر إلى مبنى الإذاعة كي يتلو البيان رقم واحد.

مبنى الإذاعة تلك، صدحت منها ـ وقبل نعيق البيانات العسكرية ـ أعذب أغاني وألحان سيد خليقة، عبد القادر سالم، عائشة الفلاتية، إيمانويل جال، جواهر، وكذلك صوت فنان الكلمة الهدّارة علي الوردي، عندما غنى لشاعر أحزان أفريقيا، محمد مفتاح الفيتوري ” أصبح الصبح، ولاالسجن ولاالسجان باقي.. وها نحن مع النو التقينا.. التقى جيل البطولات بجيل التضحيات.. التقى كل شهيد بشهيد قهر الظلم ومات”.

وبعيدا عن لعنة العسكرة االتي تحوم حول هذا المبنى وكافة مجالات الحياة السياسية والثقافية في السودان، هل يتذكر الجيش السوداني أن أم كلثوم كانت قد غنت أجمل حفلاتها في السودان عام 1968لصالح المجهود الحربي وكانت جماعة الإخوان قد هاجمتها بشدة؟ وكذلك فعل نزار قباني في ذات الفترة حين ألقى شعره في قاعة القوات المسلحة بالخرطوم ودار الثقافة بأم درمان، وشبه الشعر بالسلاح في تلك المرحلة العصيبة التي تلت حرب 67.

فُتن نزار برقة السودانيين وعشقهم للفن والشعر حتى قال في مذكراته “ﻛﻞ سوﺩﺍﻧﻲ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﻛﺎﻥ ﺷﺎﻋﺮﺍ ﺃﻭ ﺭﺍﻭﻳﺔ ﺷﻌﺮ، ﻓﻔﻲ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺷﺎﻋﺮﺍ ﺃﻭ ﺃﻥ ﺗكون ﻋﺎﻃﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ”. وﻛﺎﻥ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻮﻥ ﻳﺠﻠﺴﻮﻥ ﻛﺎﻟﻌﺼﺎﻓﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻏﺼﻮﻥ ﺍﻟﺸﺠﺮ، ﻭﺳﻄﻮﺡ ﺍﻟﻤﻨﺎﺯﻝ، ﻭ”ﻳﻀﻴﺌﻮﻥ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺑﺠﻼﺑﻴﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﺒﻴﻀﺎﺀ، ﻭﻋﻴﻮﻧﻬﻢ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﺘﺰﻥ ﻛل طﻔﻮﻟﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻃﻴﺒﺘﻬﺎ”.

وارتدت أم كلثوم في حفلتيها، الفستان السوداني التقليدي لتتمايل مع ألوانه البهيجة ـ مثل عروس النيل ـ على “هذه ليلتي” و”الأطلال” و”فات الميعاد”. وأمرت سيدة الغناء العربي بأن يجمعوا لها أنفس كتب الشعر السوداني آنذاك، لتعود بها إلى مصر، فكن كتاب “أكواخ الأشواق” للهادي آدم وقصيدته “أغدا ألقاك” التي عهدت بها لمحمد عبد الوهاب، كي ييلحنها في تحية خاصة لأبناء النيلين.

أما في الأدب الروائي، فمن منّا لم يسحره الطيب صالح، الذي خرج من عمامته كتاب كثيرون، لكن “موسم الهجرة إلى الشمال” ظلت جوهرة التاج، وغطت على روائع مثل “شوق الدرويش”، لحمور زيادة، و”مسيح دارفور”، لعبد العزيز بركة ساكن.

وفي السينما، أبهرنا مخرجون من جيلين مختلفين كإبراهيم شداد في الثمانينات، والشاب أمجد أبو العلاء، الفائز بعدة جوائز في السنتين الأخيرتين.

أما في المسرح، فيبقى المرحوم ياسر عبد اللطيف، صديق العمر الذي تعرفت إليه وعملت معه في دمشق، وتناولت من بين يديه ومما طبخته زوجته الجنوبية، وعلى نفس “الميز”، أطباق سودانية مثل الكمونية والضلع والمفروكة، والملاح.. والأطيب من ذلك كله، طيبة السودان: “كوخ الأشواق” العربية.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى