(الأعدقاء) …أفرادا وحكومات ..
(الأعدقاء) …أفرادا وحكومات .. .. أطلقنا عليه أيام الدراسة الابتدائية لقب (الشحمة) لأنه كان–الله يذكره بالخير-عنوانا للرعونة و(كوكتيلا) من البدانة والسماجة والعدوانيّة …
لم تسلم رقبة واحد فينا من (طيّاراته) – أي صفعاته على الرقبة – بسبب أو من دون سبب ,خصوصا عندما (نتمرّد ) عليه فنعصي أوامره في المشاغبة على الأستاذ أو التسرّب من المدرسة أو عدم مساعدته أثناء الامتحان …أو هزيمته في لعبة (الدحل) التي لا يجيد غيرها.
كان صديقي (الشحمة )يكنّ لي شخصيا عداء فاحشا ويخصّني دون غيري بعقوبة مضاعفة كلّما حزت على علامة جيّدة,حتى أني كنت في كثير من المرّات أتعمّد الإخفاق وأتقصّد الجواب الخاطئ…ولكنّني غالبا ما كنت أفشل في اصطناع الفشل .
حينما علم بالصبيّة التي أتودّد إليها وتتودّد لي –الشيء الذي كنّا نعتبره حبا في تلك الأيام- ,جنّ جنونه …وصار يتعمّد توجيه الإهانة لي كلّما لمحني معها في باحة المدرسة مستعينا بعضلاته وشحمه الزائد على اللزوم.
كنت أكظم غيظي وأنام على ألمي ولا أتجرّأ على تشكّيه ,لا لأهلي ولا لإدارة المدرسة …إلى أن طفح الكيل وحانت ساعة الحسم.
قمت بأكثر من بروفة في البيت أمام المرآة مستذكرا لكمات محمد علي كلاي وحركات (بروسلي ) و(جاكي شان) …وحتى مواقف فريد شوقي في الأفلام العربية.
جاءت أوّل لحظة استفزاز منه,فانهلت عليه لطما ولكما منتقما من سنوات الغبن ..ثمّ بطحته أرضا حتى صار يصرخ ويستغيث تحت ضرباتي …وتحت أنظار الصبيّة التي كنت (أحبها).
جاءت النتيجة على عكس ما أتوقّع, صار (الشحمة) يتودّد إلي أكثر من اللازم ويعتذر منّي كلّما غلبني في لعبة الدحل ,حتى أصبح يتقصّد الخسارة كي لا يغضبني… فأبطحه أرضا أمام الملأ…
أمّا الحدث الجلل فقد جفتني الصبيّة التي كانت تتودّد إلي وأتودّد إليها وقالت لي :(لم أعد أحبك لأنك شرّير ولا رحمة في قلبك …هل هكذا ربّاك أهلك !؟).
صار زملائي في المدرسة يتجنّبون ممازحتي خشية غضبي, يتهامسون فيما بينهم ويحذّرون بعضهم من مخالطتي …صرت وحيدا وشبه منبوذ بعد أن كنت ألوفا ومزوحا وودودا في نظرهم .
مضت سنوات الدراسة الابتدائية على خير ,شاءت الأقدار أن أنتقل إلى مدينة أخرى وأكمل دراستي فيها .
ما كادت أن تمضي بضع أسابيع في مدرستي الجديدة التي بدأت أنعم فيها بالهدوء وكسب أصدقاء جدد ,حتى أشيع أنّني صاحب سوابق …وأنّه قد سبق لي أن كدت أجهزت – أو كدت – على أحدهم في مدرستي الابتدائية….وتعالت الهمسات :(احذروه).
ما العمل…!؟ ,هل أتصنّع الضعف وأقوم بدور المغلوب المسكين كي يحبني زملائي الجدد…لا أريد أن أصبح(شحمة ) ثانيا فيشتمونني في السرّ ويمدحونني في العلن…هل أبحث في هذه المدرسة عن واحد يكون مثل ما كنته كي أحجّم من هذه الهيبة الزائدة على اللزوم..؟!.
لكنّ المشكلة أنّي تعرّفت إلى صبيّة جديدة في المدرسة ويكمن سرّ إعجابها بي فيما سمعته عنّي من (بطولات سابقة) في مدرستي السابقة.
ظللت مكرها لا بطلا وتأرجحت حياتي بين بطل سلم وبطل صراع وهراش .
مضت سنوات الثانوية على خير ومضى كل ّ إلى غايته حتى جاءت أيام الجامعة التي تنقّلت فيها بين أكثر من كليّة وأكثر من بلد …لكنّ عقدة (فوزي الشحمة)لم تحلّ بعد.
عدت بعد ثلاثين عاما إلى (بلد المنشأ )وسألت عن (الشحمة)فقيل لي أنه أصبح مسؤولا كبيرا في الحكومة ,قابلته في مكتبه الفخم بعد أن مررت بسكرتيرة حسناء تشبه الصبية التي كنت أزعم أني أحبها.
رحّب بي على طريقته ممازحا ,سألني عن أخباري ثم قال:دعك من الحديث في السياسة ..ما رأيك في لعبة دحل؟
ابتسمت قائلا:سقا الله تلك الأيام.
ردّ بجديّة :(أنا لا أمزح),سحب الدرج وأطلع منه بعض (الدحل) وقال :هيّا نلعب, و هنا في المكتب.
لعبنا فهزمته وتحسّست بعدها رقبتي ,ولكن …ليس أمام السكرتيرة.
(صفنت)قليلا (أي شردت) وأنا أنظر من شباك مكتب المسؤول الشاحم إلى بلادنا الطيّبة : هذه هي الحكومة وهذه هي المعارضة …وما بينهما لعبة (دحل) , صفعات على الرقبة ومحاولات حب فاشل …….
نسيت أن أخبركم أنّ(عديقي) صار ممشوق القوام ,وديعا ,دمث الخلق وصاحب نكتة – أو هكذا يراه فريقه في الوزارة على الأقل – ….وسأبعث له بنسخة من هذه السطور خشية غضبه… وكفّه التي صارت أسمك من مخّه أيام الطفولة.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة