نوافذ

الأمان الصغير

الأمان الصغير … يبدو أننا استنفذنا حصتنا من الأبطال في هذا القرن، أيضاً، وسلفاً.

وإذا كان لدينا، في القرن الماضي، مسودات بطولة ومشروعات أبطال، فإن هذا القرن يستبعدنا تماماً. فلم يبقَ لدى العاقرات من نظرية المستحيل سوى العودة إلى الصبا الأول… أي إلى ما كان، وما لن يكون.

لقد بردت أطراف المثقفين في ثلاجة الموتى… ذلك لأنهم يرحلون، تاركين وراءهم تلك الأوراق التي مجّدت زمناً وحلماً وأشخاصاً بدا عليهم أنهم حاملو رايات لا يثقبها الرصاص.

ومن تبقّى من مثقفي عصرنا طووا أعلامهم ليقولوا لعابر السبيل:

كان مشروعنا وهماً. وفتوّتنا حماس هورمون البداية في الذكورة. ونحن، من زعيم إلى زعيم، نزخرف وصف غبار عرباته المخلّعة الصاعدة نحو الذرى الصعبة لنجد أنفسنا، في أحسن الأحوال، أحصنة تنتظر رسناً أمام البيت الأبيض.

لم نكن مصادفة في طريق التحول نحو بلاد منكوبة إلى بلاد تحاول أن تغدو بلاداً محبوبة. ولم يكن وهماً أن تتقدم البلاد ما دامت تعرف الطريق والأهداف. ولم يكن مستحيلاً سخيفاً أن تنجح البلاد في رصف طريق بين قريتين.

لكن تبين أن كل مثقفي الأمة لم يستطيعوا أن يجعلوا العدل والقانون والحرية تتقدم شبراً واحداً إلا نحو مقابرها ومقابرهم. ومنذ قليل نجحت البلدية في شق طريق… فمحوها.

هكذا نحني رؤوسنا جميعاً تحت عتبة البلديات مطالبين برصيف جيد لمشوار المساء. وبشجيرة يسقيها جنائني البلدية، وبالحاويات لزبالة عصرنا وعصيرنا. وفيها نفينا ونفاياتنا!

مطلب الوطنية الأعظمي وحدة الحارات والبارات.

مطلب القومية الأعظمي فيزا لهجرة أو منفى.

مطلب الحرية ألا يكون بوسع أحد منعك من أوبة المساء.

مطلب المطالب ألا تنحني كل يوم كثيراً إلا في السنوات الأخيرة من الشيخوخة، حيث انحناؤك ينفع في تفقد القبر، أو البحث عن الشباب الضائع.

هكذا كنا، وهكذا صرنا، وهكذا سنكون مع الفارق الفظ بين مطلب تزفيت طريق بين قريتين. والمطلب اليوم ألا يقتل كل من يمر على هذه الطريق، سواء كان يحمل رشاشاً، أو كتاباً، ومن كل الأعمار.

صرنا حفاري خنادق، كنا نظنها تحصينات لقتال الأعداء، فصارت مقابر جماعية لنسيان أعداد الموتى.

لم يعد أحد يبحث عن دور في مهمات الحياة، وإنما يبحث عن مكان في طابور المهانة الطويل من أجل ربطة خبز، وليتر محروقات، وكيس إعاشة من فضلات حنان الدول التي ساعدت في حيازة البنادق وأدوات حفر الخنادق.

صرنا…

تفاصيلنا أدّت إلى التكرار، فكَرِه الناس بعضهم من ملل التكرار وتشابه الشكوى، ونقص ذكاء المتورط.

صرنا…

صانعي الموت صبراً.

سؤال الكثيرين: هل يستحق “ما نعيشه” كل “ما نعانيه” في سبيل العيش؟

الموت ـ مثل البرابرة في قصيدة الشاعر اليوناني المصري كافافيس: “الموت… نوعٌ من الحل”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى