دراسات

الأوراسيّة.. لماذا هي جوهر عَظَمَة روسيا؟

د. محمّد دياب

الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانيّة اليوم، هي أكثر من مجرّد نزاعٍ إقليميّ. إنّها صراعٌ يتجاوز حدود هذه الساحة، ويتوقّف على نتائجه مصير العالَم لعقودٍ طويلة مُقبلة. وهو صراعٌ من النَّوع الذي يتكرّر كلّ قرن أو نصف القرن، وترتسم في خضمّه معالِم نظام عالميّ جديد. وكما في العديد من هذا النَّوع من الصراعات، تضْطلع روسيا بدَورِ رأس الحربة، أو القوّة التي يقع على عاتقها العبء الرئيس في بلْورة هذا النظام الجديد.

تُطرح “الفكرة الأوراسيّة”، أو “النَّزعة الأوراسيّة”، بوصفها عقيدةً واستراتيجيّةً تخوض روسيا على هداها هذا الصراع، ومَساراً سياسيّاً وأيديولوجيّاً يرمي إلى مُواجَهة منظومة الهَيْمَنة الغربيّة، ولاستعادة روسيا توازنها ومكانتها، ولإقامة ما يُمكن تسميته “العالَم الأوراسي” المُعبِّر عن الروح الوطنيّة الروسيّة المتجدّدة، والضّامن لأمن روسيا ومصالحها في نطاقِ المجالات البريّة والبحريّة المُجاوِرة. وفي الواقع، تمثّل “الفكرة الأوراسيّة” تيّاراً فكريّاً وسياسيّاً صاعداً في روسيا تزداد قوّته اليوم، وخصوصاً في مواجهة التحدّيات الوجوديّة التي تواجهها البلاد. ويرى دُعاة التيّار الأوراسي، وألكسندر دوغين في طليعة ممثّليهم اليوم، أنّ المشكلة الأساسيّة التي تواجهها روسيا، والتي أدّت إلى فقدانها الكثير من عناصر قوّتها كدولة عظمى، ومراكز نفوذها ومصالحها الحيويّة في العالَم، ووصولها في تسعينيّات القرن الماضي إلى حافّة الانهيار والتفكّك، تكمن في تخلّيها حينذاك عن دورها الطبيعي الذي رسمه لها موقعها الجيوسياسيّ المحوريّ، والتحاقها الذيليّ بالسياسة الغربيّة الأطلسيّة.

مفهوم “الأوراسيّة

قبل الحديث عن “العقيدة الاستراتيجيّة الأوراسيّة”، لا بدّ من التوقُّف بإيجاز عند مفهومَيْ “أوراسيا” و”الأوراسيّة”. فمن المعروف أنّ عِلم الجيوبوليتيك، الذي أَرسى أُسسه الألماني فريدريك راتسيل، وطوَّره البريطاني السير هيلفورد ماكيندر، والأميركيّان: ألفريد ماهان ونيقولاس سبايكمان وآخرون، يَفترض وجود كيانَيْن، أو قطبَيْن جيوبوليتيكيَّيْن أساسيّين، هُما: قوى البرّ (أوراسيا)، وقوى البحر (الأطلسيّة). وثمّة تناقض أساسي بين هذَيْن القطبَيْن، وهو تناقضٌ لا يقوم على أساسٍ طبقيّ، وإنّما على أساس مفهوم “المدى” الجغراسي.

قطب البرّ يتمثّل في ما يسمّى “قلب العالَم” Heartland، الذي يمتدّ في رحاب القارّة الآسيويّة وبعض أوروبا، على جزء كبير ممّا تمثّله اليوم روسيا، وأجزاء أخرى من آسيا جنوباً وشرقاً. وفي المقابل، فإنّ قوى البحر Sea Power تقع في المناطق الساحليّة، أو الطَرَفيّة Rimland التي تتمحور حول منطقة الأطلسي (كانت زعامتها تتمثّل بالإمبراطوريّة البريطانيّة سابقاً، قبل أن ينتقل مركز الثقل إلى الولايات المتّحدة). يدور بين هذَيْن القطبَيْن الأساسيَّيْن صراعٌ يرتبط بالجوانب الحضاريّة والقيَميّة والثقافيّة، فضلاً عن تلك التكنولوجيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة. ويطال هذا الصراع حتماً مسألة الموارد الطبيعيّة ومصادر الطّاقة تحديداً، ومجالات النفوذ. وتقول صيغة ماكيندر الكلاسيكيّة: “إنّ من يسيطر على أوراسيا (قلب العالَم) يسيطر على العالَم”. ويُمكن أن تتمّ السيطرة بطريقتَيْن مختلفتَيْن، وفقاً لتوازن القوى العامّ بين “قوى البرّ” و”قوى البحر”.

تفترض الطريقة الأولى، أو ما يسمّى الطريقة القاريّة، أن يسود الحافز الآتي من الداخل، من قلب القارّة، من Heartland، بصرف النّظر أكان إمبراطوريّة روسيّة أم كياناً أوراسيّاً أشمل أو تحالفاً قاريّاً يشمل دولاً مركزيّة كروسيا والصين والهند وإيران وغيرها، أو غير ذلك. فمهمّة “قطب البرّ” تتمثّل في توسيع نفوذه قدر الإمكان نحو المناطق التي تغطّي القارّة الأوراسيّة كلّها والمناطق المُحاذية لها، وإقامة التكامُل الاستراتيجي في ما بينها. ونحن نرى إرهاصات قيام مثل هذا التحالُف أو التكامُل اليوم.

أمّا الأنموذج الآخر للسيطرة على أوراسيا والمناطق المُحاذية لها، وبالطبع على موارد الطّاقة فيها، فهو أنموذج السيطرة من الخارج، من جهة قوى البحر. هذا الأنموذج (الأطلسيّ) الرامي للهَيْمَنة على المنطقة الاستراتيجيّة نفسها، يفترض السيطرة الخارجيّة على ما يُسمّى “المناطق الساحليّة” التي تفصل “قلب العالَم” عن البحار الدافئة. يرتبط هذا الأنموذج تاريخيّاً بالقوّة الأنغلوسكسونيّة: الإمبراطورية البريطانيّة سابقاً، ثمّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي انتقلت إليها تدريجاً زعامة القطب الأطلسيّ، والتي تتحكّم بمصائر العالَم اليوم. ويقوم هذا الأنموذج على ربط “المناطق الساحليّة” بمركز القوّة الأطلسيّة، وبسط السيطرة عبر البحار والمحيطات بواسطة الأساطيل الحربيّة وحاملات الطائرات والشركات العابرة للقوميّات والحدود، ونقْل مصادر الطّاقة عبر الناقلات العملاقة.

ما الذي تمثّله “المناطق الساحليّة” التي تمتدّ من المدى الأوروبي، مروراً بالشرق الأوسط، وصولاً إلى الشرق الأقصى والمحيط الهادئ؟ خلافاً لصيغة ماكيندر التي اعتبرت أنّ أوراسيا هي “قلب العالَم”، وأنّ مَن يُسيطِر عليها، فهو يُسيطِر على العالَم، رأى عالِم الجيوبوليتيك الأميركي سبايكمان، أنّ “المناطق الساحليّة” هي المفتاح للهَيْمَنة على العالَم. فيقول: “إنّ مَن يُهيْمن على المناطق الساحليّة، يُهيمِن على أوراسيا، ومَن يُهيمِن على أوراسيا، فإنّه يتحكّم بمصائر العالَم”.

روسيا قارّةٌ بذاتها

ينتمي أنصار التيّار الأوراسي الحديث في روسيا اليوم، إلى ما سُمّي “النَّزعة الأوراسيّة” التي ظهرت في عشرينيّات القرن الماضي على أيدي مفكّرين روس من أمثال نيقولاي تروبتسكي وبيوتر سافيتسكي وليف تموميليف وغيرهم. وتتلخّص الفكرة المركزيّة للنزعة الأوراسيّة في اعتبار روسيا قارّة بذاتها، هي “أوراسيا” المُترامية على أجزاءٍ واسعة من أوروبا وآسيا. وبالتالي، فإنّ روسيا هي في آن دولة أوروبيّة وآسيوية، يقع القسم الأكبر من أراضيها وثرواتها في آسيا، بل إنّ عُمقها الاستراتيجي، الاقتصادي والعسكري، يمتدّ في رحاب هذه القارّة. وهي لم تتحوّل دولة عظمى لها ثقلها ودَورها الفاعل على الصعيد الدولي، إلّا بعدما نجحت في القرون الماضية في الخروج من قوقعتها في جزئها الأوروبي، وتمدّدت جنوباً نحو القوقاز كخطوة على طريق تحقيقها حلمها الدائم في الوصول إلى المياه الدافئة، وشرقاً عبر سيبيريا، وصولاً إلى الشرق الأقصى وشواطئ المحيط الهادئ.

تلتقي الاتّجاهات المختلفة في التيّار الأوراسي على تبنّي مقولة ماكيندر الذي، كما ذكرنا، يعتبر أنّ المساحة التي تغطّيها روسيا من أوراسيا، هي قلب العالم (Heartland)، أو “المحور الجغرافيّ للتاريخ”، وأنّ من يسيطر على هذا المدى الجغرافيّ الواسع، يسيطر على العالَم. انطلاقاً من ذلك، رأى ماكيندر أنّ المهمّة الرئيسة للجيوبوليتيك الأنغلوساكسوني، هي الحيلولة دون قيام حلفٍ قارّي استراتيجيّ حول “المحور الجغرافيّ للتاريخ”، أي روسيا. وذلك من خلال اعتماد ما سمّاه “استراتيجيّة الثعبان”، الرامية إلى الالتفاف حول روسيا واقتطاع أكبر جزء مُمكن من الأراضي المحيطة بها لكبح توسّعها الجيوسياسي. من هنا نفهم ما يعتبره الأوراسيّون، والروس عموماً، في زحف حلف الأطلسيّ نحو حدودهم خطراً وجوديّاً يتهدّد روسيا كدولة وكيان ومجتمع وحضارة. ومن هنا نفهم أيضاً الصراع الدائم مع الغرب، وأخطار الاجتياحات التي كانت تتهدّد روسيا من الغرب. ونتذكّر في هذا السياق غزوات نابليون ووصوله إلى موسكو، ثمّ اندحاره، والأحلاف الفرنسيّة النمساويّة البريطانيّة ضدّها في القرون الماضية، والاجتياح الألماني مرّتَيْن في القرن الماضي، والحرب الباردة، و”حرب النجوم”، وصولاً إلى الحرب التي يخوضها الغرب الجماعيّ ضدّها اليوم، مقترنةً بعقوبات اقتصاديّة لا مثيل لها في التاريخ.

لذا يَستنتج الأوراسيّون الروس أنّ المصالح الحيويّة لروسيا تفترض مواجهة هذه الاستراتيجيّة الأطلسيّة، باستراتيجيّة مضادّة هدفها إقامة حلف أوراسيّ قارّي (يُطلِق عليه دوغين اسم “الإمبراطوريّة الجديدة”)، ويضمّ الشعوب والدول الأوراسيّة المتضرّرة من السياسة الأطلسيّة. وهو حلف لا يقتصر على الجمهوريّات السوفياتيّة السابقة، بل يتعدّاها. ويتبيّن من أطروحات الأوراسيّين، على مختلف اتّجاهاتهم، أنّ العالَم العربيّ والإسلاميّ، أو جزءاً منه على الأقلّ، يحتلّ مَوقعاً مهمّاً في الحلف العتيد.

استناداً إلى ما تقدّم، يُمكن مُقارَبة “العقيدة الاستراتيجيّة الأوراسيّة” التي تتبنّاها قوى أساسيّة في روسيا اليوم، وتكاد تتحوّل إلى سياسة رسميّة للدولة الروسيّة. وإذا فهمنا الاستراتيجيّة بأنّها عبارة عن تنسيق وتوجيه كلّ مَوارِد الدولة من أجل تحقيق أهدافها العليا، يُمكن القول إنّ القوّة العسكريّة هي إحدى الوسائل فقط لإضعاف إرادة الخَصم، ومن ثمّ التفوُّق عليه، ويجب أن تَقترن بكلّ أنواع الضغوط الاقتصاديّة والتجاريّة والماليّة والسياسيّة والدبلوماسيّة، وإبرام التحالفات مع دول أخرى تتقاطع معها مصالحها. فنرى أنّ روسيا تسعى، في استراتيجيّتها الأوراسيّة، إلى استخدام كلّ ما لديها من عناصر قوّة، ابتداءً من موقعها الاستراتيجيّ الذي يغطّي جزءاً من أوروبا وقسماً كبيراً من آسيا، وكذلك امتلاكها لثرواتٍ طائلة وقوّة عسكريّة جبّارة ونفوذ سياسيّ ودبلوماسيّ، ولطاقة علميّة كبيرة، وتراث حضاريّ، وحضور قويّ على المساحة السوفياتيّة السابقة، من أجل بناء هيكليّة تكامليّة أوراسيّة بمشاركة دول أخرى، آسيويّة في الدرجة الأولى.

ثلاثة أبعاد استراتيجيّة

وللعقيدة الاستراتيجيّة الأوراسيّة التي تسير على نهجها روسيا أبعادٌ ثلاثة: جيوسياسيّ، وأمنيّ، واقتصاديّ. وهي اتّجاهات متداخلة ومتشابكة. في البُعد الجيوسياسيّ، تسعى روسيا إلى إعادة ترميم علاقاتها المتشعّبة مع الجمهوريّات السوفياتيّة السابقة وتوطيدها واستعادتها إلى “الحضن” الروسيّ، مستفيدةً من الروابط الشديدة والمتنوّعة، اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، التي ربطت هذه الجمهوريّات بالمركز الروسيّ طيلة العصرَيْن الإمبراطوريّ والسوفياتيّ، ومن خَيبة أمل بعضها من نتائج توجّهها نحو الغرب عقب تفكّك الاتّحاد السوفياتي، واقتناعها بأنّ الحضن الروسي أكثر “دفئاً” وفائدة. وتذهب روسيا أبعد في توجّهها الجيوسياسيّ، فتعمل على نَسْجِ علاقاتِ ودٍّ وتفاهُمٍ وتعاونٍ مع دول مختلفة في القارّة الآسيويّة والشرقَيْن الأوسط والأدنى (مع تركيا وإيران والمَمْلَكة العربيّة السعوديّة ودول الخليج الأخرى وباكستان والهند وغيرها)، على الرّغم من التناقضات، الحادّة أحياناً، وتضارُب المصالح التي تشوب العلاقات بين بعضها بعضاً أحياناً. وفي البُعد الأمني، تعمل روسيا على تعزيز قواها العسكريّة، وإعادة بناء جيشها وتطوير منظومات تسليحه، ومواجهة التحدّيات الاستراتيجيّة التي يُشكّلها تقدُّم حلف الأطلسي شرقاً، وصولاً إلى “باحتها الخلفيّة” في أوكرانيا وجورجيا والبحر الأسود. فكان إقدامُها على ضمّ شبه جزيرة القرم عقب الانقلاب الذي وقع في كييف في العام 2014 ونقْل أوكرانيا عمليّاً إلى المُعسكر الغربي، وتدخّلها الفاعل في منطقة الدونباس في شرق أوكرانيا، ووصول هذا التدخّل إلى ذروتِهِ في الحرب الاستباقيّة التي أطلقتها منذ شتاء العام المنصرم لقطع الطريق على تمركُز حلف الأطلسيّ ببناه العسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة على تخومها الغربيّة، الأمر الذي يشكّل خطراً وجوديّاً عليها؛ كان ذلك كلّه بمثابة خطوات جوابيّة صادمة ذات بعد استراتيجيّ بهدف حماية أمنها القومي. وفي إطار البُعد الأمني الاستراتيجي يندرج تدخّلها المباشر في سوريا، وغير المباشر في مناطق أخرى من العالَم، وخصوصاً في أفريقيا.

وتُواجِه روسيا والعقيدة الأوراسيّة تحدّياتٍ كبيرة استراتيجيّة وجيوسياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة. التحدّي الأكبر كان تفكُّك الاتّحاد السوفياتي بحدّ ذاته، ومن ثمّ انسلاخ جمهوريّات ومناطق شاسعة عن روسيا، كانت على مدى قرون جزءاً من الإمبراطوريّة الروسيّة، وشكّلت ما يُمكن تسميته الحزام أو المدى الجيوسياسيّ والاستراتيجيّ الحيويّ العازل للمخاطر الخارجيّة بالنسبة إلى روسيا. وتفاقمت خطورة هذا التحدّي مع توجُّه بعض هذه الجمهوريّات غرباً، بحثاً عن الدَّعم الاقتصاديّ والسياسيّ، وذلك مع وصول قوى سياسيّة مُعادية لروسيا على رأس هذه الجمهوريّات.

أدّى هذا الانزياح غرباً إلى تمدُّد النفوذ الغربيّ الأطلسيّ، الأميركيّ في الدرجة الأولى، السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ، إلى حدود روسيا، إلى باحتها الخلفيّة وعقر دارها، وخصوصاً بعد سقوط أوكرانيا في الحضن الغربيّ كليّاً، بعدما سبقتها إلى ذلك جورجيا، ومولدافيا نسبيّاً. لقد أَسهم ضعف روسيا وتخلْخل مَواطِن القوّة لديها في تسعينيّات القرن الماضي في انفكاك هذه الجمهوريّات عنها وتطويقها بالنفوذ الغربيّ. وبعد وصول بوتين إلى السلطة ونجاحه في تذليل الكثير من مخلّفات التسعينيّات، واستعادة روسيا جزءاً من قوّتها ومكانتها على الساحة الدوليّة، بدأت بعض هذه الجمهوريّات، وخصوصاً في آسيا الوسطى خطى العودة إلى الكنف الروسي. بيد أنّ الخطر الأكبر يبقى على الجبهة الأوكرانيّة.

وعلى المستوى الاقتصادي، تعمل روسيا مع شركائها على بناء هياكل تكامليّة أوراسيّة من ضمنها منظّمة شانغهاي للتعاون الأوراسي، والاتّحاد الاقتصادي الأوراسي، والتعاون الوثيق مع اثنَيْن من أعضاء مجموعة بريكس الآسيويّين، هُما الصين والهند، والعمل المُشترَك مع الصين في إنجاز مشروع “حزام واحد طريق واحد”، الذي تسعى الصين من خلاله إلى إحياء تقاليد “طريق الحرير العظيم” في ظروف العالَم المُعاصِر. وتشهد هذه المنظّمات والبنى التحالفيّة جهوداً لصوْغِ أهدافٍ ومهمّات وخِطط سَيْر ومؤسّسات، ووضْع آليّات لتحقيق الاتّفاقيّات ولتعزيز مواقع الدول الأعضاء ولتعزيز نفوذها في العمليّات السياسيّة والاقتصاديّة على المستويَيْن الإقليمي والدولي. إنّ موقع روسيا في وسط القارّة الأوراسيّة، وهي التي تَعتبر نفسها صلة الوصل الجامِعة بين حضارتَيْ الغرب والشرق، حدَّد لها دَور المؤسِّس والمحرِّك لعمليّة التكامُل من ضمن الاتّحاد الأوراسي الاستراتيجي. فروسيا، كما يفهمها الأوراسيّون الروس، ليست مجرّد دولة على قارّتَيْن، بل إنّها في نظرهم، عبارة عن ملتقى للدروس والعِبَر التاريخيّة التي أَسهمت في تذليل عدم الاستقرار والتناقضات التي شهدتها هذه المنطقة عبر التاريخ، وتتجسّد فيها (أي في روسيا) إنجازات الشعوب والقوميّات والإثنيّات التي تقطن أرجاء المجال الأوراسي. وهذا ما يفسِّر ظهور النظريّة الأوراسيّة في روسيا في أعمال مفكّرين روس في القرنَيْن الماضيَيْن، من أمثال سافيتسكي، وتروبتسكي، وتموميليف، وكذلك ألكسييف، وكراسافين وغيرهم.

انطلاقاً من إسهام روسيا في الحضارة العالَميّة والأوراسيّة خلال ألف عام من تطوّرها الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصادّي والمعرفيّ، يمكن القول إنّ قيام التكتّل الاقتصادي والسياسي الأوراسي، لن يكون مجرّد استجابة للتحدّيات العولميّة الرّاهنة، بل هو في الدرجة الأولى امتداد لمَسار تاريخي وحضاري عميق الجذور. فالأيديولوجيّة الأوراسيّة تمثِّل بالنسبة إلى روسيا الفرصة الوحيدة للاستمرار وللارتقاء إلى مصافّ الدولة العظمى. وما يطرحه الأوراسيّون، قد يُمثِّل الطريق الذي يُمكن أن تسلكه روسيا لمواجهة التحديّات الخطيرة، وللحفاظ على كيانها، وموقعها، ودَورها المستقلّ. فالغرب لن يقبلها أبداً جزءاً مكوِّناً منه، وقد كانت دائماً تمثِّل بالنسبة إليه، عالَماً غريباً “متوحّشاً”، وخطراً يخشاه باستمرار. والعودة إلى تاريخ علاقات الغرب بروسيا يؤكّد ذلك.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى