دراسات

مواجهة أزمات داخل أزمة: مُعالجة تغيّر المناخ في سورية

بنيامين سميث

تاريخياً، أدت سورية، التي تمثل جزءاً من منطقة الهلال الخصيب، دوراً حيوياً باعتبارها مهداً للزراعة، لكن هذا البلد الآن يواجه موجات الجفاف المُدمّرة التي يعتقد الخبراء أنها تفاقمت بسبب تغيّر المناخ. وكان لهذا التحوّل عواقب وخيمة على البيئة والمُجتمع في سورية، حيث ساهم بشكل كبير في تدهور التربة، وانخفاض الإنتاجية الزراعية، وزيادة التعرّض للكوارث الطبيعية. وفي أواخر عام 2000، شهدت سورية واحدة من أسوأ حالات الجفاف في التاريخ الحديث، والتي أدّت إلى هلاك المحاصيل وفقدان الماشية. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، تسبّب الجفاف في فشل 75% من المزارع السورية، وموت 85% من الماشية بين عامي 2006 و2011. وقد دمّر ذلك القطاع الزراعي في سورية، الذي كان مصدر الرزق الأساسي لسكان الريف، والعمود الفقري لاقتصاد البلاد الذي كان يوفّر 14% من إجمالي الوظائف في سورية؛ أي ما يُقدّر بنحو 1.5 مليون مزارع سوري والذين تركوا منازلهم قبل النزاع.

لقد استمرت الآثار المُعطّلة لتغيّر المناخ والجفاف خلال الحرب السورية. وفي الواقع، أصبح المشهد أكثر تعقيداً بسبب الحرب. وعلى سبيل المثال، في عام 2022، أكّدت مجموعة من العوامل المُرتبطة بالحرب وتغيّر المناخ مرة أخرى ضعف سورية؛ فقد انخفض إنتاج القمح في البلاد في ذلك العام بنسبة 75% عن مستويات الإنتاج ما قبل الحرب. وفي الوقت نفسه، فإن النزوح الكبير للسكان، والمدفوع بعددٍ من العوامل المُشتركة، بما في ذلك تغيّر المناخ وعدم الاستقرار الاقتصادي والصراع، لم يُغيّر الديناميات الديموغرافية للبلاد فحسب، بل أدّى أيضاً إلى تحدّيات اجتماعية واقتصادية وإنسانية كبيرة.

علاوة على ذلك، تحوّلت المياه، وهي من أهم الموارد الأساسية لبقاء الإنسان، إلى سلعة ثمينة بسبب ندرتها. وأدّت التغيّرات الناجمة عن المناخ إلى انخفاض مُقلق في موارد المياه وزيادة مُعدّلات التبخّر، وهو سيف ذو حدين يزيد من تفاقم ظروف الجفاف، بخاصةٍ في شمال شرق البلاد. وأدّى سوء الإدارة، وبخاصةٍ حفر الآبار غير المُستدامة، إلى تفاقم المُشكلة.

لقد أوجد الصراع في سورية على مدى عقد من الزمن أزمات مُتعدّدة الأوجه، ما جعل وضع منهجية شاملة ومُنسّقة حول تغيّر المناخ أمراً صعباً للغاية. إن حالة الانقسام في البلاد، وندرة الموارد، والحاجة المُلحّة للإغاثة الطارئة؛ جميعها عوامل تُعرقل صياغة استراتيجية مُتماسكة بشأن تغيّر المناخ. مع ذلك، وحتى في خضم هذه المحن، من المُمكن تصميم استجابات مُبتكرة، وإن كانت مُجزّأة، للتخفيف من جوانب هذه الأزمة المُتشابكة في جميع مناطق سورية، لاسيما من خلال المساعدات الخارجية ذات الأهداف المُحدّدة.

ضعف سورية في مواجهة تغيّر المناخ

لقد اشتدّت حدة الآثار المُتتالية لتغيّر المناخ، والصراع المستمر، والصعوبات الاقتصادية في سورية، وتحديداً في المناطق التي تعتمد على الزراعة، وبشكل أساسي في شمال شرق البلاد، حيث تجد سورية نفسها عالقة في دائرة مستديمة من المشكلات، حيث تفاقم كل قضية القضية الأخرى؛ فاستمرار الصراع إلى جانب سوء إدارة المياه، وفترات الجفاف الطويلة أدّت إلى انخفاض كبير في الإنتاجية الزراعية. ويُعزّز هذا الانخفاض في الإنتاجية بدوره عدم الاستقرار الاقتصادي وانعدام الأمن الغذائي، ما يؤدّي إلى المزيد من التوتّر الاجتماعي، ويفرض مزيداً من الضغوط على بيئة سياسية مهتزة بالفعل. وتؤدّي ندرة الموارد المائية إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها المزارعون، ما يدفعهم إلى اللجوء إلى المُمارسات الزراعية غير المُستدامة، والتي بدورها تُسرّع من تدهور التربة.

أصبحت موجات الجفاف والحر، والتي من المُحتمل أن تتفاقم بفعل تغيّر المناخ، أكثر من مُجرّد تحدّيات دورية حيث تحوّلت إلى عوامل اختلال دائمة ومُنتظمة، إذ تواجه سورية أنماط طقس قاسية على نحو مُتزايد. فقد ارتفع متوسّط ​​درجات الحرارة في البلاد بشكل مُطّرد، ما رفع درجة الحرارة في البلاد الآن بنحو 0.8 درجة مئوية عما كانت عليه قبل مائة عام. وشهدت السنوات الأخيرة موجات حارة أدت إلى ارتفاع في درجات الحرارة بمقدار 8-10 درجات مئوية فوق المستويات المُعتادة. وتشهد منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ​​الأوسع نطاقاً، التي تشمل سورية، ظروفاً جوية أكثر دفئاً وجفافاً، ويعزو الكثيرون شدة الجفاف الذي امتد من عام 2006 إلى عام 2011 إلى هذا التغيّر المناخي.

تؤدّي أزمة المياه، وهي نتيجة ثانوية أخرى غير مرغوب فيها لتغيّر المناخ وسوء الإدارة، إلى عواقب وخيمة. وعلى مدى السنوات الأخيرة، شهدت الموارد المائية في سورية تناقصاً سريعاً. وتُشير بيانات البنك الدولي إلى أن مُعدّل هطول الأمطار استمر في التقلّب مع انخفاض ملحوظ في عامي 2017 و 2021 بشكل خاص بمعدّل 195 ملم و 232 ملم في السنة على التوالي. وبرز الحفر المُفرط لآبار المياه في جميع أنحاء سورية، بما في ذلك الشمال الغربي والشمال الشرقي والجنوب، بوصفه عاملاً حاسماً أسهم في ندرة المياه. بالإضافة إلى ذلك، جفّ العديد من روافد الأنهار تماماً، واُستنزفت مياهها بفعل عاملي الجفاف وبناء السدود في دولة المنبع في تركيا، والتي تُكافح الجفاف في أراضيها كذلك.

كان لآثار هذه التحوّلات المناخية تداعيات واضحة على نهر الفرات، المصدر الرئيس للمياه السطحية في سورية. فقد بلغ مُتوسط ​​مُعدّل تدفّق مياه النهر بين عامي 2001 و2021 حوالي 530 متر مكعب في الثانية (باستثناء الفترة من 2011-2013 بسبب نقص البيانات). وفي السنوات التي سبقت الصراع، كان مُتوسط مُعدّل ​​تدفّق المياه في النهر أعلى بكثير من ذلك، وبمقدار 643 متر مكعب في الثانية، بينما انخفض هذا المعدّل في الفترة 2014-2021 إلى 430 متر مكعب فقط. وقد تجلّت حدة الأزمة بشكل حاد في تلك السنين بفعل تظافر عدد من العوامل الطبيعية، وأخرى من صنع الإنسان. ففي عام 2020، على سبيل المثال، انخفض معدل تدفق مياه النهر إلى 200 متر مكعب في الثانية، وهو أدنى مُعدّل له منذ عام 2001، وحتى أقـــل مما كان عليه خلال سنـــوات الجفـــاف في الفتــرة 2007-2008. وظهر هناك تحسّن طفيــف في عام 2021، على الرغم من انخفاض تدفّــق ميــاه النهــر إلى 40% فقط من مُعدّله في يناير بحلول الصيف.

يزيد التلوث البيئي في جميع أنحاء سورية من مدى تعقيد المشهد المُعقَّد بالفعل في البلاد. فمُشكلة ندرة المياه في سورية آخذة بالتفاقم بينما يُسهم قطاع الزراعة في تفاقم مُشكلة تلوث البيئة. وغالباً ما تكون المياه القليلة الثمينة المتبقيّة غير صالحة للاستخدام. فالشمال الشرقي من البلاد، والذي يُعدّ أكبر خزان للمياه العذبة في سورية، يواجه مُشكلة التلوّث النفطي، ومكبّات النفايات الصلبة، ومياه الصرف الصحي الزراعية والصناعية التي تُدار بشكل غير صحيح. ويُشكّل التلوث النفطي تهديداً كبيراً لجودة المياه. وتؤدّي التسريبات من البنية التحتية القديمة، إلى جانب إنتاج النفط غير المشروع السائد في مناطق الصراع، إلى وصول النفط إلى المُسطحات المائية. ولا يُلوّث هذا النفط المياه فحسب، بل يُشكّل أيضاً طبقة رقيقة على السطح، ما يمنع الأكسجين من الوصول إلى الأحياء المائية؛ وبالتالي، يُعطّل النُظم البيئية بأكملها.

ويُعدّ التخلّص غير الملائم للمياه العادمة الزراعية والصناعية مصدر قلق كبير. فمياه الصرف الزراعية المُحمّلة بالأسمدة والمبيدات، والنفايات الصناعية، والمليئة غالباً بالمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية الضارة، تُلوّث موارد المياه عند تصريفها بشكل غير صحيح. ولا تُشكّل هذه المواد الضارة مخاطر صحية مباشرة عند استهلاكها في مياه الشرب فحسب، بل تُلوّث التربة أيضاً عند استخدامها للري، وتُقلّل من الإنتاجية الزراعية؛ وبالتالي، تُهدّد الأمن الغذائي. لقد لوحظت تبعات هذه الأزمة مُتعدّدة الجوانب على مستويات عدة، ونجحت فقط في فرض هذه الحلقة المُفرغة. وتسبّبت ندرة المياه في إحداث دمار كبير في إنتاج المحاصيل. وأدّى هذا النقص في الإنتاج المحلي، بدوره، إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء البلاد، ما أثّر في الفئات السكّانية الأكثر ضعفاً بطرق عميقة وفورية. وأثّر الانخفاض في الإنتاجية الزراعية، وفي سلسلة الإمدادات الغذائية بأكملها، الأمر الذي أثّر بدوره في الأمن الغذائي والاقتصاد المحلي.

ومع تضاؤل ​​الإنتاج المحلي للمحاصيل الأساسية مثل القمح، يزداد الاعتماد على الواردات، ما يؤدّي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الصعب بالفعل. وقد ارتفعت كُلف هذه الواردات بشكل كبير؛ ففي الشمال الشرقي، حيث كان الجفاف قاسياً بشكل خاص، ارتفع سعر الدقيق، وهو عنصر أساسي في المطبخ السوري، بنسبة مذهلة بلغت 86% من شهر أبريل إلى شهر سبتمبر 2020. وتبدو الصورة على مستوى البلاد قاتمة بالقدر نفسه، حيث أشار برنامج الغذاء العالمي إلى حدوث زيادة مُذهلة، وبنسبة 247%، في أسعار المواد الغذائية على أساس سنوي. ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية وصعوبة توافرها، يبرز سوء التغذية حقيقة مؤلمة، لاسيما بين شرائح السكان الأكثر ضعفاً. وبناءً على التقديرات الأخيرة، في سورية، يعاني أكثر من 609,900 طفل دون سن الخامسة مرض توقّف النمو. ومن المدن الصاخبة إلى القرى النائية، يتحدّث السوريون عن مستويات من الحرمان لا مثيل لها في تجربتهم الحياتية. وفي الواقع، يبدو أن الوضع مريع، والوقائع الصارخة تؤكّد الحاجة المُلحّة إلى اتخاذ إجراءات بهذا الخصوص.

وفي الخلاصة، تجد سورية نفسها عالقة في وضع مُعقّد طويل الأمد ومُتعدّد الأوجه، حيث أدّت الآثار المُدمّرة لتغيّر المناخ وإساءة استخدام الموارد المائية إلى خلق حلقة مُستمرّة من الأزمات. وأدّى تظافر الصراع المستمر، وسوء إدارة المياه، وطول موسم الجفاف إلى انخفاض كبير في الإنتاجية الزراعية، ما أدّى إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي وانعدام الأمن الغذائي، ما أدّى بدوره إلى تفاقم التوتّر الاجتماعي والهشاشة السياسية. وعلى الرغم من تأثّر جميع أنحاء سورية، يمكن القول بدرجة عالية من اليقين أن المنطقة الشمالية الشرقية هي الأكثر تضرراً من تغيّر المناخ.

أزمة المناخ في سورية: السياسات والخطط والحوكمة

في خضم الانقسام المُستمر في سورية، لا توجد استراتيجية وطنية بشأن تغيّر المناخ. فالدولة السورية، المُثقلة بالعقوبات وتداعيات الحرب، لديها موارد محدودة لتكريسها لجهود تغيّر المناخ. ويواجه الشمال الشرقي وضعاً سياسياً مليئاً بالتحدّيات بسبب الحصار المُستمر الذي يُعيق الحكم المحلي والمُساعدات الخارجية، بينما يواجه الشمال الغربي، الذي يتسم بخطوط الصراع النشطة، مجموعة خاصة من التحدّيات، ويشهد تدفقاً مُستمراً للنازحين، ما يؤدّي إلى تفاقم الظروف المعيشية المُتردّية بالفعل هناك. وفي كلٍّ من هذه المناطق الثلاث، تُبذَل جهود لمُعالجة مُختلف القضايا، وإن كان ذلك يحدث بطريقة مُجزّأة ومُتفرّقة. والقاسم المُشترك بين هذه المناطق التي تتميّز جميعها بعدم الاستقرار والصراع المستمر، أنَّه غالباً ما توضع مسألة رسم استراتيجية طويلة الأجل بشأن المناخ على الهامش. فالصراع اليومي من أجل البقاء يطغى على الحاجة إلى تطوير السياسات وتنفيذها من قبل السلطات المحليّة.

 أ. المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة

خلال العقود الأخيرة، أظهرت قرارات السياسات العامة للحكومة السورية عدم تماشيها مع المناخ الجاف في البلاد، ما زاد من حجم التحدّيات التي يفرضها تغيّر المناخ. وهذا التناقض واضح بشكل خاص في القطاع الزراعي. فعلى سبيل المثال، وكوسيلة لتحقيق الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الواردات، شجّعت الحكومة على زراعة القطن والقمح والحبوب الأخرى، التي كانت كثيفة الاستهلاك للمياه وتحتاج إلى كميات مياه أكثر مما يوفّره مناخ المنطقة بشكل طبيعي. علاوة على ذلك، غالباً ما تؤدّي طرق الري التقليدية في سورية، مثل الري بالغمر والري بالأخاديد، إلى استخدام مُفرط للمياه وتوزيع غير فعّال لها، ما يؤدي إلى فقدان كمية كبيرة من المياه من خلال التبخّر والتسرّب والجريان السطحي. وعلى الرغم من أوجه القصور المعترف بها لمثل هذه الأساليب، لم تتحرّك الحكومة لاتخاذ إجراءات بهذا الخصوص.

وخلال الصراع السوري، فقد النظام موطئ قدمه في المنطقة الشمالية الشرقية، وهي المنطقة الأكثر تأثراً بتغيّر المناخ. ومع ذلك، فإن مظاهر تغيّر المناخ، وسوء إدارة الموارد، والفشل في تطبيق السياسات غير مُقتصرة على هذه المنطقة فحسب. فمنطقة درعا في الجنوب تُعدّ مثالاً على ذلك. تاريخياً، تمتلئ درعا بموارد المياه السطحية والجوفية، وكانت تُسهم المنطقة بشكل رئيس في القطاع الزراعي الوطني، لاسيما في زراعة الفاكهة والخضروات. وفي عام 2008، استحوذت درعا على 44% من إنتاج الطماطم، المُنتج الزراعي الأكثر شعبية في سورية. ومع ذلك، فقد شهدت المنطقة خلال الصراع تحوّلات كبيرة في أنماط هطول الأمطار، واستنزافاً كبيراً لموارد المياه، وندرة في الوقود. وقد دفعت هذه التحدّيات العديد من المزارعين إلى الاعتماد على مياه الأمطار حتى بالنسبة للمحاصيل المروية، ما يجعل الإنتاج الزراعي عُرضة لخطر تقلّب موسم الأمطار الذي يتعذّر التنبوء به[1]. ومن بين التطوّرات المُقلقة الأخرى التي تدلّ على قصور الحوكمة زيادة الآبار غير القانونية في درعا. وتُشير التقارير الرسمية إلى وجود ما يقرب من 4000 بئر غير مُصرّح بها، على الرغم أنّه من المُرجّح أن يكون الرقم الفعلي لتلك الآبار أعلى بكثير من ذلك[2].وقد نتج عن هذه المُمارسة غير المُستدامة أن يُصبح العديد من مصادر المياه مثل بحيرة المزيريب والينابيع الأساسية  الأخرى، إمّا جافّة أو تعمل بشكل موسمي.

منذ بداية الصراع في سورية، أصبح توافر مصادر الوقود البديلة مثل الغاز والكهرباء والقدرة على تحمل تكلفتها صعبة للغاية. ونتيجة لذلك، كان هناك زيادة في الاعتماد على الحطب والفحم لأغراض الطهي والتدفئة، ما أدّى إلى زيادة نشاط إزالة الغابات. وأظهرت إحدى الدراسات، باستخدام صور الأقمار الصناعية، أن أكثر من ثلث جميع الغابات في البلاد قد دُمِّرَت في السنوات الـ 12 الماضية. وتشمل المناطق المُتضرّرة بشكل خاص المناطق الخصبة تاريخياً مثل الغوطة الشرقية، الواقعة بالقرب من دمشق، والتي عانت من إزالة الغابات بشكل كبير[3]. وثمة  تقارير أيضاً من درعا التي تقع تحت سيطر الحكومة، حيث لا تزال هناك مزاعم عن جماعات مُرتبطة بالنظام تستغل سلطتها للانخراط في قطع الأشجار غير المشروع وتجارة الأخشاب.

وكانت استجابة الحكومة بهذا الخصوص مُتواضعة في أحسن الأحوال مع اطلاقها مُبادرات صغيرة مثل زراعة الأشجار في مُختلف المُحافظات (في اللاذقية ودرعا وحلب وغيرها) التي عانت خسائر فادحة أثناء النزاع. وحقيقة الأمر أن الحكومة السورية، على الرغم من تنامي خطورة القضايا البيئية، تفتقر إلى سياسة ملموسة تجاه تغيّر المناخ. وقد تفاقم هذا الضعف في مواجهة الأزمة المُتصاعدة التي أدّت إلى تزايد المشكلات البيئية وتعميق ندرة الموارد الطبيعية، وهي تحدّيات كانت موجودة حتى قبل اندلاع الصراع. ومع ذلك، فإن المنُظّمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، تسعى جاهدة إلى سد هذه الفجوة. وكما هو موضّح في وثيقة إطار العمل الاستراتيجي، تهدف الأمم المتحدة إلى تضمين الاستدامة البيئية في برامج التعافي المُبكّر الخاصة بها في سورية عبر أربع ركائز رئيسة، تشمل تعزيز حماية البيئة، وتحسين الرقابة التنظيمية للانبعاثات، وتعزيز إدارة المياه والموارد الطبيعية الأخرى، وتعزيز الإدارة المُتكاملة للنفايات.

ب. الشمال الغربي

 

في شمال غرب سورية، لاسيما في المناطق الزراعية مثل إدلب، تعرّض القطاع الزراعي لتأثيرات كبيرة بسبب الإفراط في حفر آبار المياه. وشكّلت ندرة الموارد المائية، التي تفاقمت بسبب فترات الجفاف الطويلة وسياسات إدارة المياه غير الملائمة، تحدّيات خطرة. وقد تأثّرت بشكل خاص المناطق التي تُسيطر عليها المُعارضة حيث يصعب تطبيق القوانين في خضم الصراع المستمر. ولعل قصة سد الدويسات تُعبّر عن الحالة المُقلقة في شمال غرب سورية. فبعد أن كان مصدراً مُهمّاً للمياه في المنطقة، وقع السد ضحية للآثار السائدة لتغيّر المناخ وسوء الإدارة. وعمل السد سابقاً مُزوّداً ثابت للمياه لـ 3000 هكتار من الأراضي الزراعية المروية والاستخدامات الأخرى. وقد جفّ السد خلال السنوات الأخيرة بسبب تغيّر أنماط الطقس وارتفاع درجات الحرارة، وأيضاً بسبب نقص الصيانة والسكن غير القانوني بالقرب منه، والتي وفقاً لبعض المزارعين تسبب في جرف التربة إلى الخزان من خلال مياه الأمطار. وجعل هذا التحوّل المزارعين المحليّين في وضع غير مستقر؛ ففي مواجهة تضاؤل ​​إمدادات المياه السطحية، اضطروا إلى اللجوء إلى مصادر بديلة، والتي تمثّلت في عمليات حفر مُفرطة للمياه الجوفية. وفي حين أن هذا يوفّر حلاً مؤقتاً لتلبية احتياجات الري الخاصة بهم، إلا أنها مُمارسة غير مُستدامة على المدى الطويل، وتُهدّد الأمن المائي للمنطقة، وتسهم في التدهور البيئي.

كان لقطع الأشجار، بما في ذلك أشجار الزيتون، لأغراض الطهي والتدفئة بسبب نقص البدائل، تأثير بيئي كبير في شمال غرب سورية. فأشجار الزيتون، ذات الجذور العميقة، تؤدي دوراً حيوياً في الحفاظ على التربة ومنع التعرية والحفاظ على التنوّع البيولوجي. وتُمثّل مدافن النفايات مُشكلة بيئية أخرى، حيث أدّت الإدارة غير السليمة لمدافن النفايات في شمال غرب سورية، بسبب الصراع ومحدودية الموارد، إلى انتشار مدافن النفايات التي تُدار بشكل سيئ. وتُشكّل مدافن النفايات هذه مخاطر بيئية وأخرى صحية من خلال تسرُّب المواد الضارة إلى التربة والمياه، بينما يؤدّي حرق النفايات في الهواء الطلق إلى تفاقم تلوث الهواء والمخاطر الصحية على المجتمعات المُجاورة.

على الرغم من الحاجة المُلحّة لاتخاذ إجراءات للتخفيف من آثار تغيّر المناخ في شمال غرب سورية، لم تتمكّن حكومة الإنقاذ السورية التابعة للمُعارضة في المنطقة من مُعالجة هذه الأزمة بشكل فعّال. وقد تأثّرت قدرة حكومة الإنقاذ السورية على الاستجابة الفعّالة في هذا المجال إلى حد كبير، بسبب محدودية التمويل، وإعطائها الأولوية للاستجابة للأوضاع في مُخيّمات النازحين. وما يزيد هذه المُشكلة تعقيداً، أنه لا توجد حالياً وزارة مُتخصّصة داخل هذه الحكومة تتعامل على وجه التحديد مع الاهتمامات البيئية أو القضايا المُتعلّقة بتغيّر المناخ. وأدّت محدودية الموارد والاعتماد على المُساعدات الخارجية إلى إعاقة وضع سياسات شاملة وتنفيذ مُمارسات إدارة المياه المُستدامة. ونتيجة لذلك، لا يزال القطاع الزراعي يتحمّل العبء الأكبر من ندرة المياه ما يُعيق قدرة المنطقة على التكيّف مع ظروف تغيّر المناخ، وضمان الأمن المائي على المدى البعيد.

يُمكن رؤية القليل من الاعتبارات المُتعلّقة بتغيّر المناخ في جهود بعض المُنظّمات غير الحكومية العاملة في شمال غرب سورية. وقد بدأت هذه المُنظمات في دمج عناصر التخفيف من آثار تغيّر المناخ في مشاريعها، لا سيما تلك المُتعلّقة بإعادة تأهيل المدارس والمُتنزّهات والحدائق. ومن خلال التركيز على المساحات الخضراء، تأمُل تلك المُنظّمات المساهمة في تحييد الكربون وتحسين النظم البيئية الحضرية. ومع ذلك، فمن الضروري الاعتراف بالقيود التي تواجهها هذه المُنظّمات غير الحكومية، لاسيما بالنظر إلى السياق البيئي الأوسع. إن الحاجة المُلحّة للاستجابة للحالات الطارئة، نظراً لاستمرار النزاع المستمر والنزوح الذي شهدته المنطقة على مدار العقد الماضي، غالباً ما توضع المخاوف البيئية الرئيسة مثل الحفاظ على المياه وتخفيف انبعاثات الكربون على الهامش. وبسبب محدودية التمويل، تحظى المخاوف المُباشرة والفورية بالأولوية ما يترك الاستجابة الضرورية والشاملة لآثار تغيّر المناخ دون مُعالجة إلى حدٍ كبير.

ج. الشمال الشرقي

تواجه الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية شبكة مُعقّدة من التحدّيات في حين تفتقر إلى التمويل الكافي والقدرات والخبرة لمواجهة هذه التحدّيات المناخية والبيئية المُدمّرة. ففي خضم الضغوط المُباشرة اليومية للحفاظ على بقائها، والصعوبات الاقتصادية، ووجود مجتمع زراعي مُتجذِّر بعمق في أنظمة طويلة الأمد، ثَبُتَ أن تنفيذ الاستراتيجيات البيئية الشاملة يُمثّل تحدياً كبيراً. ولسوء الحظ، فشل نهج الإدارة الذاتية إزاء السياسة الزراعية، لأنه يُديم الأنظمة نفسها التي كان يُطبّقها النظام سابقاً؛ وبالتالي، فإن ذلك يحد من تأثيره المُحتمل للتخفيف من آثار تغيّر المناخ.

يتأرجح وضع مياه الشرب في شمال شرق سورية على حافة الأزمة بسبب الجفاف وعوائق الوصول إلى المياه، والتي تفرضها المناطق الخاضعة للسيطرة التركية. وقد أثّرت هذه العوائق بشدة في توافر مياه الشرب النظيفة، ما أدّى إلى زيادة مخاطر الإصابة بالأمراض التي تنقلها المياه. وفي الواقع، يُمكن أن نعزو بداية تفشي وباء الكوليرا في هذه المناطق مُباشرةً إلى ندرة مياه الشرب النظيفة. في الوقت نفسه، خلقت الدولة المُضطربة في سورية، التي تميزت بتحوّل سيطرتها على الأراضي والصراع المستمر، اقتصاد الظل، لاسيما في المناطق الواقعة التي تقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية. ويتجلّى هذا بشكل أكبر في تهريب النفط إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وفي حين أن هذه الأنشطة قد توفر راحة اقتصادية مؤقتة للبعض، إلا أنها تترك آثاراً دائمة على البيئة وتُسرّع وتيرة تغيّر المناخ. وغالباً ما تؤدّي عمليات تهريب النفط السرّية إلى حدوث تسريبات تسبب تلوثاً خطيراً للمياه. وهذا بدوره يُدمّر النُظم البيئية المائية، ويلوّث مياه الشرب، ويُشكّل مخاطر صحيّة على المُجتمعات المحلية التي تعتمد على هذه الموارد.

إن ظهور مصافي النفط المؤقّتة في خضم الصراع السوري المُمتد يؤكد تقاطع مفاهيم السعي للحفاظ على البقاء، واحتياجات الطاقة، والحفاظ على البيئة. وفي ظل غياب إشراف رسمي من الإدارة المؤقّتة، فإن هذه المنشآت المُرتجلة تستخدم تقنيات بدائية لاستخراج النفط الخام وتكريره، ما يؤثّر بشكل كبير في البيئة. ويُسهم تشغيل هذه المصافي المؤقتة في تلوث الأرض والهواء بأنهار النفط وأبخرة الدخان المنبعثة من المصافي المحلية. ومع الانسكابات والتسريبات النفطية المُتكرّرة، يؤدي التلوث الناتج إلى تعطيل التربة وموارد المياه، ما يضر بالنظم البيئية المحلية والزراعة. علاوة على ذلك، تُثير مثل هذه الانسكابات مخاوف صحية كبيرة للمُجتمعات التي تعتمد على هذه الموارد المُلوّثة.

وفي استجابتها للأزمة البيئية في شمال شرق سورية، بذلت المُنظّمات غير الحكومية جهوداً كبيرة، وإن كانت قصيرة المدى إلى حد كبير. وكان التركيز الرئيس لهذه المُنظّمات غير الحكومية على مُعالجة القضية المُلحّة لندرة المياه، وهي مشكلة تضخّمت بسبب الظروف المناخية الصعبة في المنطقة، وتفاقمت بسبب الصراع المُستمر. ومع ذلك، غالباً ما يتضمّن الحل المُعتمد نقل المياه بالشاحنات، وهي مُمارسة توفّر إغاثة فورية ولكنها بطبيعتها غير مُستدامة. لا يعالج نقل المياه بالشاحنات الأسباب الجذرية لندرة المياه، ولا يشجع على ممارسات الاستخدام المُستدام للمياه. علاوة على ذلك، فإنه ينطوي على تكاليف تشغيلية عالية وانبعاثات كربونية، ما يزيد العبء البيئي؛ وبالتالي، في حين أنها تصلح إجراءً أو حلاً مؤقّتاً لأزمة ما، إلا أنها لا تُمثّل حلاً طويل الأجل لندرة المياه في المنطقة والتحديات البيئية ذات الصلة. يقوم بعض المُنظّمات غير الحكومية في شمال شرق سورية باتباع منهجية جديدة أكثر استدامة، لاسيما في مجال الزراعة، حيث تقوم بدمج العناصر الصديقة للبيئة في برامجها الزراعية مثل تشجيع إنتاج الأسمدة العضوية وتعزيز ممارسات الزراعة العضوية المُستدامة. بالإضافة إلى هذه الجهود، تعمل بعض المنظمات غير الحكومية على تطوير استخدام الألواح الشمسية في القطاع الزراعي.

التصدّي لتحدّيات المناخ في سورية

تُعدُّ مواجهة التحدّي المناخي في سورية مُهمّة شاقة، بسبب النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي المُعقّد في البلاد. بادئ ذي بدء، لا تُعطي السلطات الثلاث في الشمال الشرقي والشمال الغربي الأولوية لمُعالجة تغيّر المناخ في سياساتها، ولم تُعِدّ خطّة مُنسّقة بهذا الخصوص عبر المناطق الثلاث. والأسوأ من ذلك، أن هذه السلطات عادة ما تفتقر إلى الموارد والوسائل لمواجهة المُمارسات البشرية (مثل حفر الآبار) التي تضر بالبيئة. وفي مثل هذا السياق، فإن ما هو ممكن واقعياً هو إطلاق المبادرات المحلية من قبل المُنظّمات المحليّة والأجنبية بالتعاون مع سلطات الأمر الواقع في المنطقة. وثمة عدد من الإجراءات والمُمارسات والمُبادرات الناجحة التي يُمكن أن تؤخذ في الاعتبار:

يجب أن تُركّز الإجراءات العملية على الأرض على تعزيز المُمارسات الزراعية المُستدامة والإدارة الفعّالة للمياه. ولتوضيح ذلك، فإن دعم المزارعين من خلال تزويدهم بتقنيات الحفاظ على المياه، مثل أنظمة الري بالتنقيط أو التغطية، يُمكن أن يحافظ على المياه مع الحفاظ على إنتاجية المحاصيل. ويُمكن أن يؤدّي تنفيذ السياسات التي تُشجع على استخدام هذه التقنيات، وتوفير الموارد اللازمة إلى تعزيز مرونة القطاع الزراعي في مواجهة التقلّبات المناخية.

إن أحد الأساليب المُبتكرة من حيث المُمارسة العملية قيام المُنظّمات غير الحكومية في شمال سورية بالتصدّى لتحدّي نقص الوقود وإزالة الغابات من خلال تشجيع استخدام الوقود الحيوي، وبخاصةٍ ثفل الزيتون. ويُمكن أن يعمل ثفل الزيتون، وهو مُنتج ثانوي خلال إنتاج زيت الزيتون، مصدراً مُستداماً للوقود ويُقلّل من الاعتماد على الحطب، ما يُسهِم في منع إزالة الغابات. بالنظر إلى أن هناك العديد من المناطق في سورية تنمو بها أشجار الزيتون، يُمكن تبنّي هذه المُمارسة من قبل المُنظّمات غير الحكومية أو السلطات وتنفيذها في أجزاء أخرى من البلاد.

توفّر مرحلة التعافي المبكر في سورية أيضاً فرصة لترسيخ المرونة في مواجهة تغير المناخ في صميم جهودها. وهذا يعني دمج الاعتبارات المناخية في مشاريع البنية التحتية والتخطيط الحضري، مثل بناء منازل ومباني عامة موفّرة للطاقة، أو إنشاء مساحات خضراء حضرية يُمكنها امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتقديم فوائد اجتماعية. ويجب تشجيع الحكومة السورية والضغط عليها لتبنّي استراتيجيات التكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من حدّته في جهود التعافي المُبكّر بعد انتهاء الصراع، لأن للقضية تأثيرات بعيدة المدى تتجاوز الحدود الجغرافية لسورية.

لدى المُنظّمات غير الحكومية والجهات المانحة الدولية أيضاً دور مُهم تؤديه، ويمكن أن يأتي دعمهم في أشكال مُختلفة مثل المساعدات المالية، والمساعدات الفنية، أو جهود بناء القُدرات. يمكنهم مساعدة سورية في تنفيذ استراتيجيات العمل المناخي، وإجراء البحوث العلمية، وتعزيز الخبرات المحليّة في مجال تغيّر المناخ. علاوة على ذلك، يمكنهم المساعدة في تطوير البرامج الإنسانية والإنمائية الذكية مناخياً، ودمج المرونة المناخية في كل جانب من جوانب عملهم.

بالنسبة للمُجتمع الدولي، وحتى مع تحوّل الاهتمام الدولي مؤخراً عن القضية السورية بسبب الصراعات الأخرى في العالم، لا ينبغي تجاهل أزمة المناخ المُلحّة في سورية. فقد يؤدّي إهمال تحدّيات المناخ في سورية إلى عدم الاستقرار الإقليمي وحدوث المزيد من موجات النزوح، ما يؤثّر في الأمن الدولي؛ لذا، فإن استمرار الدعم الدولي لمجابهة تغيّر المناخ في سورية، بصرف النظر عن الوضع السياسي أو الصراع الحالي يظل أمراً حيوياً.

وفي المحصلة، تُمثّل مُعالجة أزمة المناخ في سورية مُهمّة مُعقّدة بلا شك. ومع ذلك، يُمكن مُساعدة سورية لكي تكون أكثر قدرة على التكيّف مع تغيّر المناخ، عبر تظافر جهود الفاعلين على المستويات المحلية والوطنية والدولية. فمن خلال إعطاء الأولوية للعمل المناخي اليوم، يُمكن لسورية إرساء الأساس لمُستقبل مُستدام وسلمي، والمساعدة في ضمان رفاهية شعبها، والمُساهمة في الاستقرار الإقليمي.

 

[1] حوار كاتب الورقة مع باحث سوري زار المنطقة، سبتمبر 2022.

[2] مقابلة المؤلف مع عدد من أصحاب المصلحة الذين يتعاملون مع الجهات الرسمية فيما يتعلق بالعمل الإنساني، يناير-مارس 2023.

[3]  مقابلات مكثفة أجراها المؤلف مع منظمات غير حكومية محلية عاملة في إدلب، يناير–مايو 2023

 

مركز الإمارات للسياسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى