دراسات

النّيوأردوغانيّة بدلاً من النّيوعثمانيّة

نبيه البرجي

عشيّة الدورة الانتخابيّة الأولى في تركيا، تحدَّث الصحافيّ النمساويّ جورج غاساور، الذي لا بدّ أنّه يختزن في لاوعيه حصار الصدر الأعظم قرّه مصطفى باشا لفيينّا في العام 1683، عن “ذلك العثمانيّ الذي لم يتمكّن، حتّى الآن، من أن يعثر على مكانٍ لقدمَيْه بين جنون التاريخ وجنون الجغرافيا في بلاده!”.

تركيا التي يضجّ في ذاكرتها صهيل أحصنة السلاطين والتي بتشكيلها الآسيويّ – الأوروبيّ، تُشاطئ أربعة بحار (الأسود، المتوسّط، إيجه، مرمرة)، حَملتِ المؤرّخين الأوروبيّين على التساؤل، بعد قراءاتٍ بانوراميّة لسياساتِ رجب طيّب اردوغان، ما إذا كان التاريخ هناك يجرّ الإيديولوجيا، أم الإيديولوجيا تجرّ التاريخ. ولكن ألَم يَقُل المؤرِّخُ الألماني فريتس شتيرن إنّ “الخيول العثمانيّة دُفنت مع أصحابها”؟!

إذاً، أيّها السيّد أردوغان، الخيول دُفنت مع السلاطين إلى الأبد. كثيرون قالوا له ذلك، بمَن فيهم الصحافي جنكيز تشاندار الذي عاش عن كثب تجربة تورغوت أوزال، وكان مُستشاراً له، “كيف لك أن تفكِّر بإعادة إحياء السلطنة، وأنتَ تعرف أنّ الولايات المتّحدة وَضعت استراتيجيّاتٍ هائلة (والتعبير للجنرال مايكل مينيهان) للحيلولة دون عودة الإمبراطوريّة الروسيّة، ولقطع الطريق على الإمبراطوريّة الصينيّة، أو أيّ إمبراطوريّة أخرى، حتّى لو أدّى ذلك الى زعْزْعة الكرة الأرضيّة؟”.

لنتصوَّر كيف يُمكن للأميركيّين القبول بعودة السلطنة العثمانيّة لتَضَعَ يدَها على الشرق الأوسط، بثرواته النفطيّة، وبمضائقه الجيوستراتيجيّة، حتّى لو طرح أردوغان على دونالد ترامب استعداده للاضطلاع بدَورِ العصا الأميركيّة في المنطقة. في هذه الحال، أيّ جدوى من وجود إسرائيل التي يشكو الحاخامات فيها من أنّ الإدارات المُتعاقبة، ومنذ عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، تحول دون تحقيق الوعد التوراتي بإسرائيل الكبرى، من الفرات إلى النيل.

هكذا تركوا أردوغان يلعب في “الأمكنة الضائعة”، وفي “الأوقات الضائعة”، بعدما اقتنع بنظريّة رفيقه القديم أحمد داود أوغلو حول “النيوعثمانيّة”، على أن تتولّى جماعةُ “الإخوان المُسلمين” التمهيدَ لذلك باختراق الدول العربيّة، وقد اعتادوا أن يكونوا أحصنة طروادة، لتتكرّس مُعادلة “النيو إنكشاريّة في خدمة النيو عثمانيّة”.

منذ البداية حذّره فلاديمير بوتين من أنّ الأميركيّين الذين يحتضنون فتح الله غولن كمطرقة على رأس الرئيس التركي، يدفعونه نحو الخراب الى أن تخور قواه، ويقع أرضاً، ليتمّ إبداله بشخصيّةٍ أخرى تقوده إلى العالَم الآخر، مثلما حدثَ لعدنان مندريس في العام 1960، حين قضى شنقاً على يدي جمال غورسل، بعدما اتُّهم بكسرِ الإرث الأتاتوركي، والسماح برفع صوت الأذان في المساجد.

لكنّ أردوغان الذي تمكّن، وبواسطة قواعده الشعبيّة، من استيعابِ الانقلاب ضدّه في العام 2016، زجَّ بآلاف الجنرالات والضبّاط والقُضاة والأكاديميّين والإعلاميّين في السجون، ليقضي على أيّ احتمالٍ من ذلك القبيل، وليبنيَ قصراً بطريقةٍ توحي كم يلعب التاريخُ. ـ تاريخُ السلاطين في رأسه.

بائع البطّيخ

ها أنّ النيوعثمانيّة تُطوى مثلما طويت العثمانيّة في العام 2023، نسخة مختلفة عن “بائع البطّيخ”، ثمّ رئيس بلديّة اسطنبول الذي كان يساعد عمّال التنظيف في كنْسِ شوارع المدينة، وهو يشقّ طريقه بعزيمةٍ مذهلة إلى “العرش العثماني” لينتظره عند ذلك المُفترق المُثير في السياق التاريخي، والسياق الاستراتيجي للمنطقة لقبُ “نيوأردوغان”!

انتهى زمن الأرائك الوثيرة بعدما كان من الطبيعي أن يفكّر، وعبر التعبئة العسكريّة لـ “الإخوان المُسلمين”، في الاستيلاء على السلطة في سوريا، كتتمّةٍ جدليّة لنجاحِ الجماعة في الانقضاض على الثورة في مصر، وتفرّدها في الحُكم، ما يُتيح له الإطباقَ على سائر أرجاء المنطقة. لم يُلاحظ أنّ بلاده التي تحيط بها البحار، تحيط بها الخطوط الحمر، حتّى أنّ “الإيكونوميست” سَألت بذهول، ما إذا كان الرجل قد أقفلَ عَينَيْه وأذنَيْه إلى ذلك الحدّ؟

مثلما عادت الخيول العثمانيّة مُنهكةَ القوى من حصار فيينّا، وقيل على وقع موسيقى الفالس، عادت من حصار دمشق على وقع “يا مال الشام”، وأيضاً من حلب، على وقع القدود الحلبيّة. وكان أردوغان قد طالَبَ بتعديل اتّفاقيّة لوزان (1923) لـ “استعادة” كلٍّ من حلب والموصل، باعتبارهما جناحَيْ السلطنة.

سلسلة من الصدمات الجيوسياسيّة الباردة لا بدّ أن تؤثِّر في رؤية الرئيس التركي، إنْ للمَشهد الدوليّ أو للمَشهد الإقليميّ. من عقودٍ قال المُستشار الألماني ويلي برانت بتاريخ بلاده المُفعم بالمآسي السياسيّة والعسكريّة، وبالمآثر الثقافيّة والاقتصاديّة والتكنولوجية، “على الدولة التي تبغي بناء المستقبل بصورة خلّاقة، أن تضعَ التاريخ في الخزانة، ولاسيّما البُعد الهيستيري في التاريخ.. كذلك الإيديولوجيا، ولاسيّما البُعد الهيستيري في الإيديولوجيا”.

القرن التركيّ

للعالِم السياسي البريطاني هارولد لاسكي هذا القول “مثلما تزرع السلطة في رؤوس القادة صورة الآلهة، تزرع في رؤوسهم، من ناحية أخرى، صورةَ مَن تنتظرهم أبوابُ جهنّم”. هذا ما يَجعل القادة يعيشون “هاجس السقوط في الهاوية”، ليتبدّلوا من حالٍ إلى حال، من خلال العودة إلى الواقعيّة. هل نتوقّع أن نكون في الولاية الثالثة أمام … نيو أردوغان؟

ولكن يبدو أنّ النَّزعة النرجسيّة التي يرى فيها الأوروبيّون “المدخل السيكولوجيّ الى الديكتاتوريّة” قد تجذّرت في شخصيّة الرجل الذي وَعَدَ إبّان الحملة الانتخابيّة بـ “القَرن التركي”.

حتّى مايك بومبيو كان حَذِراً حيال استخدام أيٍّ من الساسة مصطلح “القرن الأميركي”، على الرّغم من دَور الولايات المتّحدة في إدارة العالَم. ويبدو أنّ أردوغان أَغفل الدلالة الفلسفيّة للمصطلح، أي “قرن تركي”، بالاقتصاد المتعب، وبالسياسات المتعثّرة، ناهيك بالتحوّلات الاستراتيجيّة في المنطقة، وحدوث تبدّلاتٍ دراماتيكيّة في مراكز القوى..

كثيرون كتبوا عن “الخطر الأسود” الذي يطلّ برأسه من البحر الأسود، وكان بمثابة المعطف الاستراتيجي لتركيا قبل أن يوصف بـ “معطف النار”.

الكاتب التركي أورهان باموق (نوبل في الآداب) قال “لا يستطيع أيّ رئيس تركي إلّا أن يكون على شاكلة تركيا. نصف آسيوي ونصف أوروبي. أمّا النصف الثالث، فهو كلّ شيء آخر”. ولكن، منذ البداية، احتار المعلّقون في تحليل شخصيّة رجب طيّب أردوغان، وإن كانت أكثريّة هؤلاء قد لاحظت “التقاطيع الفرويديّة” في تلك الشخصيّة. إنّه صاحب القصيدة التي تقول “قبابنا خوذاتنا، مدننا حرابنا، المصلّون جنودنا”. هذا الإسلاميّ الذي يظهر بربطات العنق الفاخرة، مسكونٌ بالإرث السلجوقي، بذلك الشعار الغرائبيّ (النسر ذو الرأسَيْن) وبالإرث العثماني الأكثر غرائبيّة، وحيث الشعار يتشكّل من قرص الشمس العمامة ذات الريش، والبلطة المزدوجة، والصولجان، والبوق، والمرساة، والسيف والرمح، إضافة إلى 22 رمزاً آخر. هو نفسه عضو في حلف الأطلسي، ويسعى إلى الدخول في الاتّحاد الأوروبي.

وزير الخارجيّة الفرنسي السابق هوبير فيدرين سأل ما إذا كان أردوغان يريد “أن يصبح جزءاً من العائلة أم يريد غزوَنا؟”، تاركاً لصحيفة “لوكانار أنشينه” أن تعلِّق “تصوّروا محمّد الفاتح العائد من القسطنطينيّة على صهوة حصانه، وهو يتّجه إلى بروكسل”؛ لتضيف “أولئك الذين حاصروا فيينّا، يعملون لحصار روما، باعتبارها تحتضن الفاتيكان”.

حدثان لا بدّ أن يُعيدا تصنيعَ الرئيس التركي. الحرب في أوكرانيا حول “مَن يجرّ العربة”، بحسب تعبير “الفايننشال تايمز”، أي حول مَن يقود البشريّة، واتّفاق بكين بين السعوديّة وإيران الذي أعقبه موقف مدوٍّ للأمير محمّد بن سلمان في أثناء قمّة جدّة: “إنّ المَملكة العربيّة السعوديّة لن تسمح بأن تتحوّل منطقتنا إلى ميدانٍ للصراعات”.

حرائق الغابات

الأميركيّون امتهنوا تصنيع الصراعات وإدارتها تبعاً لمصالحهم في المنطقة. البداية كانت مع جون فوستر دالاس، وإطلاق “مبدأ آيزنهاور” لـ “ملء الفراغ في الشرق الأوسط”، إلى أن تبلْوَر ذلك، عملانيّاً، بإطلاق الرئيس رونالد ريغان نظريّة “حرائق الغابات”، أي الحروب التي يجري تفجيرها لغاياتٍ تكتيكيّة أو استراتيجيّة، والمحدَّدة زمنيّاً وجغرافيّاً.

هذا ما شهدناه في منطقتنا، وما أغرى بلداناً في المحيط، باللّوثة الإمبراطوريّة إيّاها، وبذريعة ملء الفراغ أيضاً، في تأجيج الصراعات بين العرب والعرب، أو داخل الدولة الواحدة، من أجل التمدُّد الجيوسياسي، من دون التنبّه إلى كونها تعمل وإنْ بصورة غير مباشرة، لمصحة القوى العظمى. حَدَثَ ذلك بشعاراتٍ مختلفة. ولكن كان جليّاً أنّ ذلك التفكير، هو نتاج التواطؤ بين ضغط التاريخ وضغط الإيديولوجيا. ما حدث في القمّة العربيّة الأخيرة أنّ السعوديّة، ومن خلال كلمة وليّ العهد، كرَّست نفسَها مركزَ استقطابٍ على المستوى العربي، كما على المستوى الإقليمي والدولي.

لا تدخُّلات من دولِ الإقليم، تزامناً مع إقامة علاقات مُتوازنة مع القوى العظمى، ما يجعل المنطقة أمام واقعٍ “مستقبلي” جديد لم نشهده منذ أن بدأت بلداننا في التخلُّص، الواحد تلو الآخر، من الاستعمار الغربي.

طموحات أردوغان كانت متعدّدة الأبعاد (والآفاق). من أقصى المشرق العربيّ إلى أقصى المغرب العربيّ. ومن ضفاف قزوين إلى تركستان الشرقيّة (إقليم شيننغيانغ الصيني)، قاطعة سهوب آسيا والقوقاز، إضافة إلى البلقان الذي لم يسقط من ذاكرة الرئيس التركي الذي بعث معه مصطلح “العالَم التركي”! بعبارةٍ أخرى، وبحسب الصحافي قدري غورسل، “ما زالت خمسة قرون من الضجيج العثماني تضغط على مخيّلته”. ماذا عن الضجيج السلجوقي؟! هل كان مجرّد خطأ في الرؤية (وفي الرؤيا)؟ بعض الساسة والإعلاميّين الأتراك، دأبوا على التلميح بأنّ مصطفى كمال أتاتورك الذي قاد عمليّة التغريب تحت عنوان “التتريك” كان يخشى من ذلك الشبح الذي يدعى… التاريخ. لهذا حاول أن ينتزع أيّ أثر له من رؤوس الأتراك، ولو بقطع الرؤوس.

تركيا العظمى

لكنّ الذين كتبوا عن الفارق بين أردوغان وأتاتورك (الذئب الأغبر) لاحظوا أنّ هذا الأخير كان أيضاً مأخوذاً بهاجس “تركيا العظمى”. كان يُدرك إلى أين يُمكن أن تذهب بلاده بالتشكيل (والتناقُض) الإثني والطائفي إذا لم يقرأ التاريخ بدقّة، ليكتشفَ أنّ الإمبراطوريّات، والحضارات، حين تزول إنّما تزول إلى الأبد.

هذا ما حدثَ للإمبراطوريّة الرومانيّة، وللإمبراطوريّة الفارسيّة، والمغوليّة، ناهيك بإمبراطورية الإسكندر ذي القرنَيْن، وبإمبراطوريّة هارون الرشيد، وصولاً إلى الإمبراطوريّة البريطانيّة. ولا شكّ أنّ تركيا حقّقت الكثير، على المستوى الإنمائي، في عهد “أردوغان الأوّل”. وحين استتبّ له الوضع “دقّت ساعة السلطنة في رأسه”. عرف كيف يلعب بالآخرين، وبأموال الآخرين وسياساتهم، ليخترق هذه الدولة أو تلك، وليعودَ، بعدما ترك وراءه آلاف الجثث، إلى اسطنبول حافيَ القدمَيْن.

الأميركيّون خذلوه كثيراً. هذا ما قاله لعلي باباجان. هو يكرههم، وهُم يكرهونه. هذا ما يتبيّن من المقالات والأبحاث التي تصدر عن معاهد مؤثِّرة بعُمق داخل الاستبلشمانت، وإلى حدّ وصفه بـ “الرجل المزدوج” (Doubleman) نصف في واشنطن، والنصف الآخر في موسكو.

إقفال البحر الأسود

الأميركيّون كانوا يراهنون عليه لإقفال البحر الأسود بإقفال مضيق الدردنيل في وجه الأسطول الروسي، كما في وجه الصادرات الروسيّة. في هذه الحال، لا يعود هناك من موطئ قدم لفلاديمير بوتين في شرقيّ المتوسّط، كنقطة انطلاق إلى غربيّ المتوسّط. في هذه المسألة بالذّات تصرَّف أردوغان بحنكة وبحصافة أيضاً (ناهيك بالزبائنيّة أيضاً وأيضاً) حين ندَّد بالغزو الروسي لأوكرانيا، وزوَّد فولوديمير زيلينسكي بمسيّرات “بيرقدار” الشديدة الفاعليّة، لكنّه كان قد ابتاع منظومات “إس. إس. 400” من الروس الذين كان يعلم أنّهم لن يتردّدوا بقصف إسطنبول إذا ما أقفل في وجههم الدردنيل!

اللّافت هنا أنّ البعض من أعضاء الكونغرس أو من اللّوبيّات المُعادية لتركيا، حذَّروا من أن يستولي أردوغان على القنابل النوويّة الخمسين المخزونة في قاعدة إنجرليك إذا ما حاولت إدارة جو بايدن الضغطَ عليه للمُشارَكة العملانيّة في الحرب الأوكرانيّة.

لكنّ المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى روبرت ساتلوف عقَّب على تلك التحذيرات بالقول “حتّى المجانين لا يفعلون ذلك”، ليس لأسبابٍ خطيرة على الصعيد التقنيّ فقط، وإنّما لأنّه حيثما توجد تلك القنابل، توجد حدود مبنى البنتاغون.

في الأحد الثاني حصلَ ما كان متوقَّعاً. أردوغان رئيساً كامل الأوصاف لولاية ثالثة، ولكن بعد أيّام مرهقة، لا بدّ أن تعقبها أيّام مرهقة (وسياسات مُرهقة). فمن الطبيعي أن يتأمّل في المرآة ليرى أيّ أردوغان الآن؟

الانسحاب التركيّ والإيرانيّ

لا وقت الآن، ولا إمكانيّة للعبث الاستراتيجي. حتّى اللّحظة مُعادلة النصف أميركي والنصف روسي منطقيّة، إلى حدّ ما، ولكن أيّ منطق داخل تلك الأعاصير التي تهبّ من الشرق ومن الغرب؟

الأميركيّون يتقبّلون المُعادلة على مضض، وبدواعٍ تكتيكيّة أو آنيّة فقط. كلّ البلدان الأطلسيّة شاركَت عسكريّاً، عبر المُستشارين، وحتّى عبر الجنرالات، في الحرب ضدّ روسيا التي لم تستطع أن تصل إلى كييف، فكيف تصل إلى باريس وبرلين وروما؟

أنقرة تمنّعت عن المُشاركة العملانيّة. بَعثت بالمسيّرات، وأمّنت لأوكرانيا تصدير محاصيلها من الحبوب. هذا لا يعجب الصقور داخل الاستبلشمانت الذين طالما ندّدوا بسياسات “هزّ البطن” (هل حقّاً إنّ رقصة هزّ البطن وُلدت في تركيا؟). لا مجال الآن إلّا للانسحاب من سوريا. معلومات ديبلوماسيّة تؤكّد أنّ ثمّة تعهُّداً إيرانيّاً بالانسحاب المُتزامن. العرب عائدون إلى دمشق. ماذا عن المشكلة الكرديّة؟ السلطات السوريّة تعرف كيف تتعامل مع هذه المشكلة.

الأكراد بدورهم، بدأوا يكتشفون أنّهم ليسوا أكثر من وقودٍ في حروبِ الآخرين، وهُم الذين كانت كلّ المواقع السوريّة العليا مشرَّعة أمامهم (رؤساء دولة، رؤساء حكومات، رؤساء أركان، مفتون …).

نتوقّف هنا عند ما تشيّعه بعضُ الأوساط الديبلوماسيّة الغربيّة حول “جدل حادّ” داخل مراكز القوى في إيران (ومن نتائجه إقصاء مُستشار الأمن القومي، وأحد مُهندسي اتّفاق بكين علي شمخاني عن منصبه) حول المدى الاستراتيجي للاتّفاق.

مصادر إيرانيّة أكّدت لنا أنّ استقالة شمخاني لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما حصل في العاصمة الصينيّة. كما أنّ “الإنجاز التاريخي” مع السعوديّة، إنّما أُبرم مع الدولة الإيرانيّة لا مع هذا المسؤول مهما علا شأنه أو ذاك.

لا عودة لعقارب الساعة في المنطقة إلى الوراء. تنفيذُ الاتّفاق ماضٍ من دون أيّ عوائق. أردوغان أنهكته رهاناتُه العثمانيّة، مثلما أنهكت الرؤساءَ الإيرانيّين الرّهاناتُ الأخمينيّة (نسبة الى السلالة الإمبراطوريّة التي أسّسها قوروش). البلدان في طريق آخر الآن.

إذاً، نيو أردوغان، وقيل بلمسةٍ أتاتوركيّة. الرجل بات يدرك أنّه لا يستطيع أن يلعب إلّا على الساحة التركيّة. هو بحاجة إلى كلّ ثانية لإعادة الإيقاع الاقتصادي إلى ما كان عليه قبل التقهقر، تزامناً مع إقامة علاقات بنيويّة مع المحيط. ربّما أدّى ذلك إلى بلْورة مفاهيم هيكليّة وفلسفيّة للتعاوُن الإقليمي تتيح للمنطقة المُشارَكة الفاعلة في لعبة القرن.

القرن الذي لن يكون أميركيّاً فقط، لا يُمكن، في أيّ حال، أن يكون تركيّاً. من سنواتٍ كَتَبَ جنكيز تشاندار “الخيال التركي في مأزق”. هذا ما يَجعل، جدليّاً، الواقع التركي في مأزق. ولا بدّ من التقاطُع الديناميكي والرؤيوي بين الحالتَيْن.

عالَم في طريق التغيير. الشرق الأوسط (الكبير) أيضاً. لا مناصّ من دفْنِ نظريّة هيرودوت لكي تترجّل المنطقة عن خطّ الزلازل!!

نشرة الفكر العربي

(تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى