كتاب الموقعكلمة في الزحام

الاستفتاء أو ديمقراطية الأمر الواقع

الاستفتاء أو ديمقراطية الأمر الواقع  … (توقّف بربّك عن هذا الهراء …هل أنتم من الدنمرك أو السويد أو سويسرا حتّى تقول لي بأنّ الشعب هو الذي اختاركم في استفتاء شعبيّ حرّ ,نزيه وديمقراطيّ…؟!؟.) .
هذا ما صاح به أحد مذيعي القنوات الإخباريّة وهو يخرج عن طوره و(حياده الإعلامي) وينفعل معلّقا عمّا قاله أحد قياديي حركة الطالبان الافغانية وهو يلاعب لحيته الغريبة بمنتهى الثقة والهدوء ,يبتسم أمام الكاميرا ,يعبث بالمسبحة ويضع الساق على الساق..
لم أستطع إخفاء ضحكتي من طرافة الموقف وغرابته حين شاهدته منذ سنوات – وفي الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يستفتون بشأن الدستور الموحّد – ,وها نحن اليوم نشهد مثله (أو ما يشابهه,عفوا) لدى الشقيقة الكبرى مصر والوسطى تونس والصغرى ليبيا.(عذرا مرّة أخرى ,فالترتيب ليس تفاضليّا) .
ترى , ما أوجه الاختلاف والتشابه بين اتّحاد أوروبيّ عريق في حرية الفرد ورأيه من جهة, وبين عالم عربي وإسلاميّ مازال يخاف من كلمة (رأي) ويسعى لمحوها من قاموسه (إن لم تكن تهمة صريحة يحاسب عليها القانون) من جهة أخرى.
مهلا , لننطلق من ثقافتنا العربيّة قبل أن نتّهم بالارتهان للأجنبي جزافا و- على الحساب قبل قراءة الكتاب – كما يقال ,ألسنا القائلين بأن : (لا رأي لحاقن أوحانق أو حاقد أو خائف أو مملوك أو مأجور أو مأمور )؟….أين الصفة الوحيدة التي لا تنطبق على المواطن العربي ؟ ! …مع إدراكنا واحترامنا لبعض التمايزات والاختلافات والخصوصيات التي يجب تفهّمها من المحيط إلى الخليج.
كم هي نسبة الأميّة في أمّتنا الأبيّة ؟ ,كم من الذين لا يفرّقون بين مصالحهم ومصالح الفئات الحاكمة عن غير حق ؟ ,كم من الشرائح التي يمكن شراء ذممهم بما يطعم الفم ويسدّ السمع ويعمي البصر ؟ ,كم من البسطاء الذين يضحك عليهم بخطبة حماسيّة تنتهي حرارتها بنزول صاحبها من المنبر ؟ وكم من النخب المثقّفة التي ضلّلت شعوبها في سبيل الجلوس إلى مائدة السلطان.
أحدّ سهام الانتقاد التي توجّه للديمقراطيات الغربيّة هي أنها تخيّر مواطنيها بين الواحد والعشرة …تتغاضى عمّن يريد اختيار الرقم 11 وتدير له ظهرها , أمّا الديمقراطيات العربيّة الوليدة فإنها تخيّرك بين الرقم (واحد) و (واحد) ,تمنح لك حقّ الاختيار بين المقصلة والخازوق والرصاص والمشنقة والغاز والكهرباء ..الخ…أظنّ أنها أكثر (تعدّديّة) من الديمقراطيات الغربيّة.
الاستفتاء في بلاد الربيع العربي –وكل باقي الفصول – يشبه النكتة التي تقول بأنّ صحفيّة قد سمح لها بحضور تنفيذ حكم الإعدام على الكرسي الكهربائي وفق الطريقة الأمريكيّة (الرحيمة) في بلد عربي ديمقراطي ,ظلّت السيّدة تستمع إلى صراخ المحكوم ساعات طويلة ثمّ سألت (العشماوي) المشرف على التنفيذ : لم كلّ هذا الصراخ وهذه الإطالة في تنفيذ الحكم يا سيّدي ؟ ,فأجاب : (لقد كانت الكهرباء مقطوعة,ممّا اضطرّنا لاستخدام الشموع .).
لعلّه الترشيد في استخدام الطاقة والشفافيّة في مصارحة الرأي العام .
الاستفتاء في بلادنا العربية – صادقا كان أم مزوّرا – هو ليس حقيقيّا ,قولا وفعلا …والفارق واضح بين الصدق والحقيقة ,إنه مثل الذي جاء يجهز على جريح ينزف من سلاح الذي سبقه إلى المعركة بدعوى تخليصه من آلامه….وتلك – لعمري – ليست من خصال الفرسان, يا سادة الربيع الذي كاد ينبت على قبورنا .
قال نبي العرب الكريم :(ما اجتمعت أمتي على باطل ) ,وكان يقصد الأمّة الواعية بقضاياها ومصيرها ومستقبلها ..والقادرة على الاجتماع أوّلا ..ومن ثمّ الإجماع …وليس المجتمعات المنخورة بفعل الجهل والأميّة والفساد ….فلماذا إذن نرفع مبدأ الاستفتاء الحر الذي لا يمكن أن ينجزه إلاّ الأحرار والمستقلّون فكرا وجيبا وساعدا وإرادة….أليست كلمة حقّ يراد بها باطل.
لسنا طبعا مع فكرة (الديكتاتوريّة الوطنيّة ) على طريقة الراعي الأدرى بما يليق بقطيعه من مسكن و مشرب ومرعى ,أو مختار القرية الذي يفكّر بدلا عنك بذريعة أنه الأفهم والأحرص على مصلحة الضيعة …لكنّه الوعي الذي يجب أن يسبق الاختيار ويعلّمك تدريجيّا بأنّ ما تختاره هو ليس لك ,بل لأولادك وأحفادك….الذين ليسوا ملكا لك …لكنهم أكبادك على الأرض.
الاستفتاء أيها العربي المغفّل مثلي ,ليس ديمقراطيّة ,بل مظهر من مظاهرها التي بلغت فيها المجتمعات الغربية عتيّا …واشتعلت رؤوسها شيبا وثورات …ف(وين كلبك والغزال ! ) ..على طريقة الأمثلة الشاميّة التي يحلو لي الاستشهاد بها دائما.

*كلمة في الزحام :

(لعم) ,وتعني نصف(لا) ونصف(نعم) ….هي ما أنصح بها شعبنا البسيط والصادق والجميل في كل استفتاء ….إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى