الصحافة :سلطة رابعة أم (راكعة)..
حين تسلّقت الصحافة المصريّة أسوار القصر الملكي ونشرت ملفّات الفساد وهاجمت الخديوي في شخصه ,بل أنّ بعض الأقلام قد ذهبت أبعد من ذلك فتسلّلت إلى غرف نومه ,فتحت أدراج خزائنه الخاصة ,كشفت حبال غسيله ولامست تفاصيل حريمه السياسي ومطبخه الحكومي …حدث كلّ هذا أمام أعين الملك الذي ألقى ب(الجورنال) جانبا وسأل رئيس حكومته النحّاس باشا آنذاك عمّا يمكن فعله إزاء هذا التطاول ,فأجابه بكلّ وضوح وبرودة وثقة : تشتكيهم إلى القضاء يا جلالة الملك ..ليس أمامك إلاّ القضاء.
نعم ,حدث هذا في بلادنا العربيّة (لا السويد ولا الدنمارك )وفي أربعينات القرن الماضي حين كانت مجتمعاتنا تتلمّس طريق الدولة الحديثة من بين أوحال الأميّة والفقر و(ترزح) تحت الاستعمار والوصاية الأجنبية .
لم نسمع – على حدّ علمي – بتكرار مثل هذه الحادثة في عصرنا العربي الراهن…وإن حدثت فمن يخبّر عنها ,ومن له المصلحة في ذلك ؟! ,رئيس الدولة,أم رئيس الحكومة أم رئيس البرلمان …أم الصحافة. ؟..؟.
قرأت الخبر على مسمع صديقي من صحيفة قديمة, مهترئة ,صفراء اللون ,متواضعة الطباعة ,لكنها تنضح طزاجة ونصاعة وحرفيّة وحياديّة ,فقال معلّقا : (يلزمنا اليوم أكثر من ستّة عقود (تخلّف) كي نصل إلى هذا السلوك الديمقراطي الحضاري ) ,فأجبته ممازحا : هل علينا أن نحرّف البيت الشهير ونغنّي في حسرة؛ (ألا ليت الاستعمار يعود يوما فأحدّثه بما فعل الاستقلال)…؟!.
ولكي لا نظلم حكومات الاستقلال ونضع جميعها في سلّة واحدة ,فإنّ بعضها اجتهد كثيرا ولم يصب إلاّ قليلا بسبب معوّقات الداخل الذي يشدّ إلى الخلف وضغوطات الخارج الذي احتكر القماش والمقصّ وآلة الخياطة وفرض المقاس الذي يريده على مزاجه ….لكنّ المغفّل في عصرنا هو من يعتقد أنّ حكوماتنا تجهل – ولا تتجاهل – أبسط مبادئ الديمقراطيات الحديثة ,أي الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائيّة) بالإضافة إلى استقلالية السلطة الرابعة وهي الصحافة والإعلام.
إنهم يدركون خطورة هذا المفهوم الذي يهدّد امتيازاتهم ,لذلك يجمعون بين السلطات كخصم وحكم في آن واحد ..ويضيفون إليها الصحافة التي اشتروا الكثير من أقلامها وشاشاتها ,ثمّ أغلقوا المربّع …ما عدا ما يحوم حوله من هوامش تنفيسيّة وديكورات تجميليّة ,على مبدأ (أن تفجع الذئب أفضل من أن تقتله) أو (لا يجوع الراعي ولا يفنى الغنم) في أحسن الحالات.
أمّا إذا انتصرت العصا على الجزرة فإنّك سترى الأفواه مكمّمة والسجون مكتظّة والجرائد والشاشات والإذاعات نسخة واحدة , تسبّح بنعمة الحاكم وتلعن من حاد عن (السراط المستقيم), فكأنّما الأقلام عندئذ أقلام حمرة والريش ريش كحل ,تزيّن صورة السلطان على مرايا الشاشات التي تستعين بكاميرات (منقّبة) , تنظر ولا ينظر إليها.
قال (ألبير كامو): الصحفيّ مؤرّخ اللحظة ..والتاريخ تصنعه اللحظات.
اللحظات الهاربة من أصحاب الدموع المتحجّرة في المقل والآهات المحبوسة في الصدور والاحتجاجات الكاسرة لجدار الصمت …إنّ الفرح ليس مهنتي كما قال محمد الماغوط.
العلاقة بين السلطة التي سمّيت مجازا بالرابعة وبين باقي السلطات هي كرّ وفرّ , مصارحة تبلغ الوقاحة أحيانا …وتعنّت يبلغ المكابرة وحالة الدفاع عن الخطئ .
الصحافة النزيهة هي البوصلة التي لا تضيّع الاتجاهات مهما شطّت ,وتشير إلى الاتّجاه الصحيح مهما تمنّى الربّان تغيير وجهات الرياح.
قل لي أيها العربي _- يا سليل أمّة (إقرأ) – _ هل تقرأ , ماذا تقرأ , كيف تقرأ ومن يكتب لك …أقول لك من أنت.
الإعلام المستقلّ يجعلك غير مغفّل , بل مشاركا في صنع القرار ,لأنّ الخبر مقدّس والرأي حرّ كما يقول جهابذة الصحافة المتطوّرة وباروناتها الأشاوس من الذين رفعوا حكومات وأسقطوا حكومات بأقلامهم الصريحة في البلدان المتطوّرة.
الصحافة همزة وصل بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات المتحضّرة …وهي همزة (قطع) – وللأسف الشديد – لدى شعوبنا التي اعتادت من أدمن الكذب عليها فصار حالها مثل حال الراعي الكذّاب في القصّة المعروفة , وباتت لا تثق حتى بالنشرة الجويّة.
رحمك الله أيها الوزير الذي نصح مليكه بتقديم دعوى قضائية ضد صحافة نزيهة في مجتمع كان يثق بالقضاء.
*كلمة في الزحام :
كلّما سافرت إلى بلد أجنبي بادرت فور وصولي باقتناء جريدة…وكلّما حللت في بلد عربي ,هرولت لسماع الإشاعة…أو ما يعرف بالصحافة البديلة.