الصوفية تواجه التكفير
تناول الباحث والمفكّر الجزائري دور المدارس والزوايا والحلقات الصوفية في مقاومة التطرّف الديني الذي بات الشغل الشاغل في الدولة والمجتمع ممّا جعل النخبة الثقافية والسياسية تختلف وترتبك في تصنيفه وتشخيصه وطرق معالجته غربا وشرقا .
سلّط شيخ الصوفية التنويري المعروف والمنسّق الأعلى للطريقة القادرية في الجزائر الضوء في ندوته التي أقامها معهد الحرية والديمقراطية بتونس على أهمية الإسلام التصوّفي في مقارعة غلاة التطرف والتكفير في المغرب الكبير و تونس بشكل خاص على اعتباره طريقة نورانية وتنويرية عباديّة , تنبذ العنف و تلتزم المحبة والسلام في التقرّب من الخالق والتعايش مع مخلوقاته مهما كانت عقائدهم ناسجا على منوال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وذاهبا في اتجاه خطى مواطنه “ابن باديس ” …
أشار العلاّمة الجزائري محمد بن بريكة الحسني وصاحب الموسوعة الأكبر في التصوف الإسلامي إلى خطورة ما يصدّر إلينا من فكر تكفيري يزعم “السلفيّة ” التي يعرّفها بن بريكة خارج سياقها الاصطلاحي الشائع والمغلوط في عالمنا المعاصر فيصحّح انزياحها بأن حقيقتها هي مدّ الجسور و تمثّل سلوك وفكر السلف التنويري قبل الهرسلة ووضع الأحاديث المزوّرة والتشويهيّة بغية الخوض في الشأن السلطوي والسياسي ـ دون أن يغفل عن ذكر الأسباب الموضوعية التي أدّت إلى تفاقم أزمة التطرف لدى الأجيال الشابة في حالات اغترابها وبحثها عن خلاص مزيّف بوعي مزيّف .
عرّج محمد بن بريكة الذي حضر ندوته نخبة من الإعلاميين و المهتمين بالشأن الديني والفكر السياسي في تونس على الأحداث المؤسفة التي استهدفت مقامات لرموز صوفية في ديارنا وغيرها من البلدان إثر موجات التخبّط العربي وبتحريض من مجموعات وهابية تريد طمس هذه المنارات التي يرجع لها الفضل في توطين الإسلام الإعتدالي الليّن الوسطي وسماحة الإيمان الإنشراحي مع ما يرافقه من بهجة معرفة وطقوس احتفالية منعشة كالموالد النبويّة التي تصدّى لمانعيها عن غير وجه حق بالحجّة والبرهان .
يذكر أنّ الجزائر ـ بلد الأمير الصوفي الثائر عبد القادر ـ تعدّ من أهم عواصم الصوفية في العالم الإسلامي بعد أن خبت جذوة القاهرة وبغداد واستبدّ التطرّف الوهابي والعقل التكفيري بحواضر كثيرة من بلاد العرب والعجم فشاعت لغة الهدم والتهشيم والاعتداء على حرمات الأحياء والأموات .
نهم المفكّر الجزائري من كبار متصوّفة العصر في أبحاثه , ناظرهم وحاورهم ومن بينهم الدمشقي محمد سعيد رمضان البوطي الذي اغتيل وهو يدعو إلى المحبة في الجامع الأموي ,ناهيك عن منابع الطرق القادرية والرفاعية والشاذلية والتيجانية والنقشبندية والبلقائدية والخلوتية والعلوية وتفرّعاتها التي تعدّ بالمئات .
ليس محمد بن بريكة عضو المجمع العالمي للتصوّف بالقاهرة مجرّد متخصّص أو باحث أكاديمي في الطرق الصوفية بل هو واحد من أعلامها المعاصرين ورجل من كبار منظّريها وشيوخها العارفين والمحيطين بأكثر من لغة , بدليل الأثر الذي يتركه بعد كل ندوة أو كتاب أو لقاء مع أهم رجالات الدين والدولة في العالم العربي والإسلامي , فلقد امتزجت ندوته بعناق تفاعلي وأخوي مع الحضور عبر الأسئلة والإجابات والأدعية وحتى الملح والطرائف كواحد ينتمي بامتياز إلى ” الآن وهنا ” ….وليس صاحب جبّة وعمامة ومنبر استعلائي كغيره من الدعاة التقليديين .
لعلّ أكثر ما ميّز الندوة التي أقامها مؤلف كتاب ” التصوف من الرمز إلى العرفان ” بدعوة من المعهد العربي للحريات والديمقراطية هو تعدّد المراجع والمصادر الغربية والشرقية إضافة إلى دقّة التوثيق ومن دون أن ينهك ذلك أو يؤثر على جمالية السرد وأدبية اللغة الرشيقة , غير الجافة والمقعّرة كما دأبت عليه مثل هذه الندوات .
حذّر صاحب موسوعة ” التصوّف في العالم الإسلامي ” من انقراض بعض الطرق الصوفية واندثار مراجعها ومخطوطاتها في المغرب الكبير بفعل استشراس الهجمات التكفيرية كما حدث في الزوايا السنوسية بليبيا ومحاولات بعضهم في تونس والجزائر ومصر والعراق ونبّه إلى أهميّة الفكر الصوفي في الحفاظ على قيم التسامح والاعتدال و التصدّي للتطرّف الأعمى التي تضخّه المنابر التكفيرية في غياب إعلام محلّي متخصّص , أصيل ومسؤول .
أثنى الدكتور بن بريكة على أصالة التجربة التونسية في حفظ التراث الصوفي وتواصل روادها مع أشقائهم الجزائريين وأشاع جوا من الطمأنة مفاده أنّ بلادا يعطّر ترابها مقامات الأولياء والصالحين وتتجذّر فيها الصوفية النقيّة لا يمكن أن يهزمها الإرهاب التكفيري .
كلمة في الزحام
قال أمير العاشقين ” زدني بفرط الحب فيك تحيّرا وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا ”