كلمة في الزحام

الطاعون وكورونا

 

رواية “الطاعون” كتبت عام 1947 أي أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، وبعد ما يقارب السنتين من انتهاء الاحتلال النازي لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية.

ولهذا التوقيت أثر كبير لدى ألبير كامو، المثقف المساند لحريات الشعوب في تقرير مصائرها، رغم ما أثير حوله من تقولات، كونه من جماعة “الساق السوداء” أي الفرنسيين المولودين والمقيمين في شمال أفريقيا، فترة الاستعمار.

” وباء الاحتلال” طال فرنسا الاستعمارية أيضا، ولم تستطع التخلص منه إلاّ عبر تدخل الحلفاء من الخارج في واقعة إنزال النورماندي الشهيرة، إلا أن “وباء الاحتلال الفرنسي للجزائر” وقع التخلص منه عبر ثورة من الداخل، غيرت ما في الرؤوس وما في النفوس، على الرغم من جميع الشوائب والإحالات المتعلقة بخلفية ألبير كامو، الشيوعية قبل اعتناقه للفكر الوجودي.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب والشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر “رواية كامو، التي كانت تسير بمحاذاة الاحتلال الألماني، وقت كتابتها، لم تتبن الدرس الفرنسي، فالطاعون الذي أصاب وهران صنع مقاومة داخلية للوباء، غيَّر من سلوكيات أناس كانوا، حتى تلك اللحظة، لاهين ومنغمسين في شؤون حياتهم الخاصة” ويضيف ناصر، أن التحدّي الذي طرحته الجثث الملقاة في الشوارع، والجرذان التي احتلت وهران، هو أن على المدينة التي حوصرت وراء سياج الطاعون ألا تنتظر العون الخارجي”.

الرواية صدرت  في عام 1947، وبفضلها حاز صاحبها على جائزة نوبل في الأدب، سنة 1957 وقد دخل التاريخ من أوسع أبوابه.

وإذا كان للرواية من قصة تروى، فإن ظرف وغاية كتابتها هما الأبرز والأهم بالمقارنة مع القراءة السردية، ذلك أنها تتخطى مجرد الحديث عن عاملين في المجال الطبي، يتآزرون في زمن الطاعون بمدينة وهران الجزائرية، نحو طرح أسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية إزاء موت معلن.

التورية والرمزية هما الخطان المتحكمان في رواية هذا الأديب الوجودي الذي نكتشف فكره العميق بمساعدة عالمي الألسنية جورج لاكوف، ومارك جونسون، في قولهما بأننا نستخدم في حياتنا المجاز أو الرمز ليتحكم في طرائق تفكيرنا، وتجاربنا وتصرفاتنا. فنحن لا نعيش بالمجاز أو الاستعارة والرمز بل نموت بها أيضا.

الرواية ـ كما الطاعون نفسه ـ لم تكن إلا ذريعة للتأكيد بأن الكارثة ليست في ” الكارثة” نفسها، بل في ” الحديث عن الكارثة”.. إنها كما الموت الذي لا أخطر منه سوى الحديث عنه.

معضلة في غاية الدقة والصرامة والجرأة، يلخصها الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، بإعرابه عن قلقه من أن المجاز أو الاستعارة يجعل من الحدث التاريخي مجرد حادث عرضي.

مدينة وهران الجزائرية، لم تصب بالطاعون في أربعينات القرن الماضي بل قبل ذلك بمئة عام كما تؤكد الوثائق التاريخية، لكن كامو، جعل من الطاعون، ذريعة ينسج على منوالها أفكاره فباتت مثل الفرضية الرياضية التي يقترحها العلماء لإثبات صحة ما يريدون قوله.

أما أخطر ما ذهب إليه هذا الكاتب الفرنسي الإشكالي، فهو كيفية قراءة الوباء لدى الفئات العريضة من الناس، وربطه بالقدر الإلهي بغية التصالح معه والرضاء به كقدر محتوم جاء على شاكلة عقاب جماعي.. وهو ما نسمعه اليوم ـ بالفعل ـ على منابر المساجد التي يتحكم فيها الإسلاميون عند معرض حديثهم عن فايروس كورونا.

هذا التبرير ليس جديدا، وقد وجد له التماسا في أقدم الحضارات البشرية، إذ ارتبطت الأوبئة بالغضب الإلهي كما ورد منذ آلاف السنين، بملحمة “اتراحسيس” البابلية، حيث يزعج ضجيج البشر المتكاثرين الإله “إنليل”، فيأمر “اللجنة المركزية” للآلهة بإسكاته في قوله ” إنه يثقل على جدًا ضجيج البشرية.. وهذا الصخب الذي يحدثونه يمنع عيني من الرقاد.. فليكن ثمة طاعون يسكتهم”.

السؤال المرعب هنا، هو ّما الذي استفز الإله حتى يسقط كل غضبه على البشرية؟ وهل هناك “بشرية ” معينة، دون غيرها؟ ولماذا الصين دون غيرها كمنطلق للفايروس.. تماما كالسؤال الذي يُطرح على ألبير كامو، في أربعينات القرن الماضي: لماذا الجزائر المستعمرة فرنسيا، وفرنسا المستعمرة نازيا؟

“ريو ” واحد من المنتمين للهيكل الطبي، في ” الطاعون”.. يمسك بجرذون ميت وهو يقول “ما لم ندركه نتيجة استغراقنا الدائم في ذواتنا، أن الطاعون والحروب تحصد الناس على حين غرة”. ويربط بعض النقاد بين رمزية الرواية واحتلال النازيين لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، مستندين في نظريتهم إلى تجربة كامو، خلال تلك الحرب، حيث كان ضمن فريق المقاومة الفرنسية، ومحرراً سرياً لصحيفة “كومبات” أي ” المعركة”.

أية معركة يريدها ألبير كامو، ويرمز إليها في رواية ” الطاعون”؟  أي سؤال وجودي يريد اجتراحه ابن وهران الجزائرية وصاحب ” الغريب” بقوله على لسان بطله “كأني مسؤول بصورة غير مباشرة، عن موت آلاف الناس”؟

أنت تقتل الناس الأبرياء لمجرد تصديقك لفكرة، دون التمعن فيها.. يا لفظاعة الصورة، وحماقة القائلين باسم القوانين والذائدين عنها.

أنت ترتبك جريمة لمجرد أن تصدق عرفا أو نصا قانونيا، يبدو في ظاهره، مساندا للحقيقة، في حين أنه يختفي وراء التباسات كثيرة وموحشة.

ما أغرب الفكرة التي ذهب إليها كامو، في “الطاعون”، وما أصعب شرحها للذين وجدوا “الطاعون” مجرد قصة تحكي وباء يجتاح مدينة وهران ويمنع المغادرين والقادمين إليها، من خلال طاقم طبي وشرائح اجتماعية تقرأ على أكث من مستوى.

لنتوقف قليلا، وننظر إلى “كورونا”.. ألا يختبئ كامو، خلف كل كمامة وسؤال، ويطرح  ذات السؤال على كل موبوء أو واقف حلف الوباء.

الجرذان تجتاح مدينة وهران، جثثها الميتة تعلن الموت كما هو المشهد الأول من الرواية حيث  يسرد كامو أحداث الرواية التي تبدأعلى لسان شاهد غامض، حين يرى الطبيب برنارد ري، ذلك الجرذ اللعين ميتاً أمام عتبة البناء الذي يسكن فيه. لم يعره أدنى اهتمام حينها، حيث اكتفى بإلقاء نظرة عليه ثم قام بركنه جانباً، لكن وبعد تكرار حوادث موت الجرذان يبدأ الطبيب بالتساؤل “أمن المعقول أن يكون الطاعون..؟”.

الحقا\ق تبدأ بسؤال.. لا بل باستنكار واستغراب واستهجان.. هكذا يرمي بنا ألبير كامو في جحيم ألسنته وهو القائل في أول جملة من رواية ” الغريب”: اليوم ماتت أمي.. ولربما البارحة، لست أدري”.

نفس “السذاجة” يبدأ بها كامو، رواية “الطاعون” عند رؤية البطل لجرذون ميت، يطرحه جانبا ليبدأ بسؤال أكبر من مجرد جرذون ميت في “الطاعون” أو برقية إخبار بوفاة أم في “الغريب”.

كل شخصيات ألبير كامو، في رواياته ومسرحياته، من الأستاذ “مارسو” في “الغريب”  إلى الإمبراطور ” كاليغولا” في المسرحية التي حملت اسمه، ووصولا إلى الطبيب “ريو”  في “الطاعون”، تبدأ من التعثر في حادثة ثم تنتهي إلى فاجعة.

ومن هنا يستهل روبرت زاريتسكي، أستاذ التاريخ الفرنسي الحديث بجامعة هيوستن، مقاله في مجلة فورين أفيرز الأميركية، بقوله “تغطي شخصيات القصة طبقات اجتماعية مختلفة من الطبيب إلى المطلوب لدى العدالة، ويصف وقع الوباء على الطبقة الشعبية”، خاتما قوله بكلمة ” رواية الطاعون هي أول نجاح كبير للكاتب ألبير كامو، من ذون منازع”.

يضع ألبير كامو، جميع الشرائح الاجتماعية ومختلف الطبقات والثقافات، أمام سؤال واحد يتعلق بالموت، فنكتشف معه أن لا فرق بين واحد وآخر أمام هذه المعضلة الوجودية.. ألا تلاحظون أن الكمامات الواقية من الكورونا الآن، تحدد في أشكالها جميع البشر في المطارات على مختلف أشكالهم.

“الطاعون” رواية تتشابه فيها الجرذان كما يوحى للقارئ من الوهلة الأولى، تختلط عليه الشخصيات المنتمية للطاقم الطبي في وهران الجزائرية، تتشابك الأمكنة في المؤسسات والبنايات، تصل إلينا من خلالها الروائح والقاذورات.. لكن ألبير كامو، مصر على نفس الفكرة: الموت يجمع ويساوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

ألبير كامو، خطر على اطمئنان كل قارئيه، يستنطقهم ـ بلا رحمة ـ عن كل ما أسلموا الأمر إليه. يبدأ بحادثة عرضية، تحسبها كبوة من الكبوات، ثم يستدرجك إلى ما لا تحمد هقباه.. يأخذك إلى مساءلة وجودية عن طريق سؤال ساذج وبسيط.

كل الجمل ملغّزة لدى كاتب “الغريب” و”الإنسان الثائر” و “مأساة سيزيف” و”كاليغولا”.. كل الأسئلة محيرة.. وكل قرائه يختلفون.

من أين أتيت يا “ألبير” بكل هذا المكر، وكيف جعلت من الطاعون وباء وجوديا فلسفيا قبل أن يكون مرضيا؟

أيها القارئ ل”الطاعون” .. لا تصدّق أن هذا الكتاب مجرد رواية تتحدث عن وباء حل بوهران الجزائرية في أربعينات القرن الماضي، لا تخلط بين جزائرية أو فرنسية ألبير، لا تظنن أن الرجل مجرد فرنسي حالم أو جزائري ثائر.. إنه لا يصيب إلا في العمق.

أيها المذعورون من فايروس كورونا، هل علينا أن نذكركم بأن ألبير كامو، لم يكن يمزح في رائعته “الطاعون” إذ نجح الطبيبان “ريو” و “كاستيل” بإنتاج مصل مضاد، أعطى مفعولاً في وجه الطاعون، ليترقب “ريو” نشر الإحصاءات العامة التي كانت تذاع في مطلع كل أسبوع، فإذا هي تكشف عن نهاية الوباء.

” كورونا” ـ وبعيدا عن كل نظريات المؤامرة ـ هي تشبه “الطاعون” من حيث الدلالة والسياق والإحالة، ذلك أنها تنشر الرعب والإثارة. ما قيمة عمل أدبي لا ينثر الرعب والإثارة؟

طاعون ألبير كامو، ينقل العدوى.. عدوى الإبداع.. ويتحدث عن مدينة مصابة،  في حين أنهتا ليست مصابة.

“ووهان الصينية” تشبه تماما، وهران الجزائرية في الأربعينات، ووفق مخيال ألبير كامو، ذلك أن ما يُروى أخطر بكثير مما يحدث.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى