العابد والمعبود والمعبد
العابد والمعبود والمعبد.. تسأل مرافقك الحلبي باستغراب عن جامع حديث البناء ,عاديّ الهندسة , متوسّط الفخامة وتؤمّه أنفار قليلة من المصلّين وهو “يواجه ” كاتدرائيّة قديمة وشاهقة في حي مسيحي عريق ؟, فيجيبك ببداهة ولكنة حلبية خاصة ومحبّبة في نطق حرف الجيم , ودون أن يدقّق حتى في النظر إليه “هذا جامع الجكارة ” .
ـ الجكارة , تعني الشماتة أو ما شابه ؟!, أليس غريبا أن تطلق هذه التسمية الاستفزازيّة على بيت من بيوت الله ؟ّ!
ـ طبعا لا ..اسمه الرسمي ليس كذلك ..نسيته ولا يحضرني الآن , إنها مجرّد تسمية شعبية شائعة على سبيل التفكّه وقد أمست طرفة نتبادلها مع أشقائنا المسيحيين دون حساسيات …والسبب أنّ بعض غلاة المسلمين وأغلبهم من أصول ريفية ـ أصلحهم الله ـ قد ارتؤوا بناء هذا الجامع في هذا الحي الذي تسكنه غالبية مسيحية ل”إثبات حضورهم ” كما يزعمون ,ظنّا منهم أنّ الله سيرضى عليهم ويجازيهم على “فعلتهم ” خيرا …هيّا بنا إلى القلعة ,إنها الأجمل “.
في دمشق ,تقتفي خطى القدّيس بطرس حجرة حجرة في حي “باب شرقي ” الشهير والمذكور في الإنجيل باسم الطريق المستقيم أو via rectaحسب المصادر اللاتينية ,تلج البوابة التي دخل منها خالد بن الوليد وسلّمه فيها مطران الشام مفتاح المدينة بمنتهى التسامح والرضاء ,تلمح مئذنة يتيمة وقديمة في أوّل الشارع وأخرى عند منتهاه حيث تبدأ حارة اليهود , فلا تكاد تنتبه إليهما إلاّ عند رفع الآذان , أمّا في أيام الأحد وأعياد الفصح والميلاد فلا صوت يعلو فوق الأجراس والتراتيل التي يأتي إليها الكثير من المسلمين مع أطفالهم للاستمتاع والتنزّه والتسوّق ومشاركة بهجة الاحتفال مع أشقائهم وأبناء مدينتهم.
يحدث هذا كل يوم ومنذ مئات السنين ولم يعرف التاريخ أحداثا عكّرت صفو هذه الوداعة ومزّقت هذا النسيج غير تلك الفتنة التي وقعت في منتصف القرن التاسع عشر إبّان الحكم العثماني وكانت وراءها أياد خارجيّة حرّكت ضعاف النفس والعقيدة والمدنيّة وقد وقف ضدها الأمير عبد القادر الجزائري بكل رجولة وحزم في منزله ومنفاه الدمشقي فآخى بين الطرفين ,كفكف الدموع وحقن الدماء .
قس على ذلك في مختلف مدن وحواضر بلاد الشام ذات التركيبة التجاريّة الضاربة في القدم ـ وهل يسألك تاجر عن دينك قبل أن يبيعك ؟…على عكس الفلاّح الذي يريد أن يكون تاجرا ….يتفرّس في وجهك ويسألك “ابن من , من أي عشيرة أنت ؟ “.
بات واضحا أنّ الذين يعكّرون صفاء هذا المشهد الرائق وينغّصون العيش وسط هذا الوئام هم صنفان ,
– جهات خارجيّة ذات مطامع استعمارية معروفة ونوايا تخريبية تخدم مصالحها وتسعى لإضعاف الدولة ونخر المجتمع من الداخل عبر إثارة النعرات الطائفية والإثنيّة عموما .
ـ جيوب داخليّة من الطوابير المرتبطة أو الجماعات ذات المنشأ البدوي والريفي المتعصّب والبعيد عن التمدّن ومعايشة الآخر المختلف في العرق والعقيدة واللغة .
هكذا تريّفت مدن كثيرة في بلاد المشرق والمغرب وطوّقتها أحزمة محرومة وحاقدة بحكم السياسات الظالمة والفئوية فأنتجت ثقافة الإقصاء والتطرّف حين تسلّلت جهات منتفعة ومدعومة وسعت إلى تفكيك البنية المدينيّة الحضارية ليحلّ محلّها علاقات عصبية قبلية وقد تركت وراءها طيبة الريف وصفائه لصالح الطمع والربح السريع .
لم يدخل التعصّب الديني من البوّابة التي دخل منها خالد بن الوليد واستقبله فيها مطارنة انطاكية وسائر المشرق , بل من المنافذ الخفيّة والسراديب المظلمة التي حفرتها السياسات الرعناء والنوايا المبيّتة …من المجاري الآسنة التي “تدفّقت” فأفسدت الأخضر واليابس …من بيوض الأفاعي التي حضنتها جيوب المهووسين بالسلطة .
أين التقرّب من الله حين تحوّل أرض الله إلى “وقف ” إسلامي أو مسيحي وتحرم عباد الله من العيش عليها ؟! ,هل أنّ الأدعية لا تصل إلاّ من الواقفين في الصفوف الأمامية من الصلاة …أم أنّ الخلاف قد توقّف في العابد والمعبد …ونسي المعبود ؟!.
كلمة في الزحام , منذ سنوات , أقدم شاب أصولي يحمل الجنسية الجزائرية على التحرّش بفتاة عند مدخل كنيسة دمشقية …وكاد أن يسيئ إلى كل ما فعله مواطنه الأمير وقدّمه إلى مسيحيي دمشق في محنتهم بين 1840 و1860 ……
ذاك أمير الشمس …وهذا خادم لدى أمراء الظلام …وما أحوجنا اليوم إلى المدينة كفضاء حضاري ومعرفي قبل أن يكون فضاء لمجرّد السكن والسكون وإفساد السكينة .