العيد يكبر ويشيخ أيضا..
كان لحلويات العيد طعم حلو… على ما أتذكّر…
وكان لدموع الطفولة طعم يمزج بين الملوحة والحموضة والاحتجاج، على ما أتذكّر …
كانت دموعا تشاهد بالعين المجرّدة وتجفّ سريعا بعد هزّة من أرجوحة أو عصير رمّان من أختي أو نقود من أمّي أو حتّى صفعة من أبي.
كان لصباح العيد رائحة (الله أكبر كبيرا) وكانت الطريق البهيجة الطويلة إلى المقبرة تغوي حذائي الجديد بالركض وتسلّق القبور القديمة فتنهرني أمّي كي أخفّف الوطء وتحاول إقناعي دون فائدة أنّ أناسا وأقارب سوف ينزعجون وهم يرقدون تحت تلك الكتابة الأنيقة السوداء والخضراء والرخام المنعش البارد.
-أمّي، هل يسمعنا الأموات ؟
-طبعاً طبعاً، هم يسمعوننا ولا نسمعهم ,يروننا ولا نراهم.
أقف عند شاهدة قبر جدّي وأفتح صوتي نحو أقصاه بقراءة الفاتحة لأنّه مات ضعيف البصر في سنّ تناهز التسعين، يبتسم أبي فأنهال عليه بوابل من الأسئلة الارتجاليّة، يجيبني على بعضها ويحيل بعضها إلى أمي التي عادة ما تفعل نفس فعلته :
-أبي، لماذا تقضي أمّي ليلها في صنع أطباق الحلوى دون أن تأكل منها قطعة واحدة؟
-أمّك مريضة وستأكلها في الجنّة إن شاء الله دون أن تصاب بأذى .
-أبي هل ستصالح جارنا (عبد الله الميكانسيان) هذا العيد؟
-نعم، مثل كلّ عيد وسأسبقه إلى طلب السماح كي لا يسبقني إلى نيل الثواب.
-أمّي لماذا لا تصوم جارتنا ماريا الايطاليّة ؟
-الله يعذرها يا بني فهي لا تتقن العربيّة كي تقرأ المصحف
-لكنّ الخالة جميلة خرساء وتصلّي وتصوم..كيف يسمعها الله؟!
-طبعاً طبعاً، الله يسمعك دون أن تتكلّم ويفهمك دون أن تنطق وقد يستجيب لطلبك دون أن تطلب…اذهب إلى اللعب ولا تشغلني بأسئلتك.
-أبي لماذا لا يأتي العيد كلّ يوم ؟
-يكون العيد طيلة السنة مشغولاً بزيارة بلاد بعيدة وكثيرة أخرى.
-أمي، لماذا يشتري الناس ثيابا جديدة في العيد؟
-كي يفرحوا
-لكنّي شاهدت فقراء كثيرين يفرحون ويعيّدون دون ثياب جديدة..!؟.
كبرت وكبر معي حذائي وقميصي وبنطالي وأسئلتي …وانتبهت إلى أنّ الأعياد تكبر بدورها، بل قد تشيخ قبلنا وتصبح غبر قادرة على التجوال بين البلاد والعباد فتخلّ بوعودها وتلزم بيوتها فننتظرها ولا تأتي.
اشتريت حذاءاً جديداً ووضعته عند سريري فلم يوقظني من نومي ولم يركض بي نحو مقبرة العائلة واشتريت بنطالاً جديداً فلم تكتنز جيوبه بالدّحل والنقود والمفرقعات، اشتريت قميصاً جديداً فلم تلوّثه أختي بعصير الرمّان ولم تعاقبها أمّي، ركبت المراجيح فلم توصلني إلى السماء، اشتريت ألعاباً فلم يسرقها منّي أحد، نفخت بوالين كثيرة حتّى طقّت بين أصابعي فلم أغضب، قرأت الفاتحة فلم ألثغ بحرف السين ولم ينطلق صوتي، لكنّهم سمعوني هناك.. أنا على يقين بأنّهم سمعوني:… أبي وهو يجالس عبدالله الميكنسيان دون خصام، أمي وهي تتذوّق ما صنعته من حلويات العيد نكاية في المرض، أختي وهي تأكل من فاكهة الجنّة دون أن تقترب من شجرة الرمّان.
لكنّ تلك الأسئلة النزقة الهوجاء ظلّت طازجة في طرف القلم واللسان ولم تجد من يقول لصاحبها: كفّ عن هذا الهراء والتحق بأقرانك واذهب لتلعب في الحارة …
مع من سألعب يا أمّي ؟! ليس لي سواك أيّتها الكلمات ويا أيّها الحزن الأليف الودود.
الدموع التي كانت تجفّفها الأحضان والألعاب والأكلات الطيّبة صارت تخجل من الإطلال على الغرباء والمرايا واكتفت بسقاية القلب والأوراق.
صحيح أنّ المعايدات فقدت حواس الشمّ والسمع و البصر واللمس والتذوّق والتوقّع وصارت ترتكب بالإبهام على جهاز الموبايل معمّمة على الجميع مثل نعوة على جدار مقهى .
صحيح أنّ العيد صار يأتي كي يذكّرنا بغيابه وصحيح أنّ الخسائر تنبّهك لما في حوزتك من ممتلكات لكنّ التعب يوشي بالمسافات التي قطعناها.. فمع كلّ حذاء جديد طريق جديدة وكلّ عام وأحذية تهترئ وأخرى تنتظر .
كل عام ومفتاح الصبر يكبر وإن سدّت الأبواب وضاقت الأقفال.. لكن – ورغم كل شيئ – فالله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة