الغراب الذي نسي أنّ له جناحين…قيل-والعهدة على الراوي-أنّ أقدم رسم كاربكاتيري في التاريخ هو عبارة عن غراب يطلع السلّم درجة إثر درجة ,يكابد على نفسه والعرق يسيل غزيرا من ريشه و منقاره الأصفر المهان.
رسم هذه المفارقة أحد بناة الأهرام على جدار كهفه الحزين ..كهفه الذي يأوي إليه بعد يوم طويل يقضيه تحت الشمس والسياط والشتائم…وأعين ربّ ينظر، يختبر ثمّ يقرّر:ينتقم أو لا ينتقم…ذلك هو السؤال.
كان العامل مرهقا، متذمّرا وكاظما لغيظه مثل غراب يتسلّق سلّما ، رغم كلّ ما أوتي من أجنحة وريش ..وقدرة على الطيران والتحليق فوق تلك المقبرة الأعجوبة وجثث رفاقه الذين لقوا حتفهم تحت أحجارها.
ولأنّ فنّ المفارقات لا تصنعه إلاّ المفارقات فإنّ الأهرام (هذه القبور القصور) بناها أموات (تأجّل دفنهم) تحت الأنقاض …وما زلنا إلى الآن نشاهد في قاهرة المعزّ فئة (لا بأس بها) تسكن المدافن، تجاور وتحاور الأموات وقد محت كل الفوارق اللفظيّة..
هل حقّا أنّ الناس طير لا تطير ، أم أنّ من لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر. .
لم يكن ذلك الرسم على السحاب، وإنّما بالحجر على الحجر …وفي كهف مظلم لا يدخله السادة ولا الشمس، لكنّ تلك الابتسامة الموجعة التي أودعها دفتره الصخريّ، كانت – وستظلّ – أكثر بلاغة و أطول عمرا من الأهرام وأبي الهول.
لم تكن أيقونة الغراب الناكر لنعمة الأجنحة تسلية أو عبثا أو استعراضا لمهارات تقنيّة، كانت فعلا تطهيريّا يمنح صاحبه التوازن والقدرة على النوم والحلم والطيران ولو بأجنحة متكسّرة.
هكذا خرج كل رسّامي الكاريكاتير في العالم من عباءة الغراب السوداء وجعلوا من المتفرّج القارئ شريكا في التعليق أو الاكتفاء بالابتسامة في مقارعة الألم …لأولئك الذين لا يتقنون فتح أفواههم .
أثبت التاريخ أنّ النكتة والطرفة والسخرية سلاح لا يصدأ وأنّ الأموات وحدهم لا يضحكون ولا يتألّمون…وأنّ المتغطرس الذي نعجز عن صدّه – ولو بالكلام – سيتفرعن أكثر..
لكنّ للابتسامة – كما للدمعة – ألوانا وأنواعا ومقاصد شتّى ، فقل لي ما يضحكك أقول لك من أنت و..حتى ما يبكيك أيضا، أمّا من حرم الاثنين (الضحك والبكاء) فهو أشبه بسنّ نخرت وسحب عصبها، فلا تأمل شيئا ممّن أضاع الحزن والفرح و فقد الدهشة والإدهاش.
لكنّ الأخطر من كلّ هذا هم أولئك الذين يتفانون في خدمة جلاّديهم ، يقبّلون أياديهم ولا يدعون عليها حتّى بالكسر كأضعف الإيمان..! بل يعتبرون ذلك واجبا مقدّسا كما تشير إحدى النظريات الباحثة في ملابسات بناء الأهرام.
سأختم بحكاية: أطبق السيّد الروماني بقبضته على يد حواريّ نحيف,قال الأخير: (احذر يدي يا سيّدي)، شدّد السيّد من قبضته فهمس الحواريّ : (يدي تؤلمني، أظنّك ستكسر يدي يا سيدي)، فعلها السيد وكسر يد الحواري الذي قال بنفس الصوت الخافت:ها قد كسرت يدي يا سيدي.