الفنان الذي رفع الحجارة إلى السماء
الفنان الذي رفع الحجارة إلى السماء .. كان يكره التناظر والخطوط المستقيمة، سكك الحديد والقطارات المتساوية .. والتي لاتلتقي أبدا مثل خطّين متوازيين….
كان يكره النظارات ويستحي من وضعها فوق أرنبة أنفه رغم ضعف بصره وحاجته إليها.. حتى سخر منه أحد الماكرين بقوله: (إنّ عينه اليمنى مصابة ببعد النظر، أمّا عينه اليسرى فبقصر النظر …. ألم تلاحظوا تصميماته المعمارية….إنها تشبه بيوت النمل المكسيكي ذات الفوضى العارمة أحيانا …. والخلاّقة في أحيان كثيرة).
إنه (غاوودي): أسطورة الهندسة المعمارية في اسبانيا، وصاحب أجمل هيكل، لم يكتمل بناؤه بعد…هل أنّ ذلك يؤكّد دائما بأنّ أعذب القصائد هي التي لم تكتب بعد… وأجمل النساء والقبلات هي تلك التي لم نقترفها بعد.
(غاوودي) صمّم أجمل وأروع كنائس وقصور العالم وهو يقبع في أجمل مدينة في العالم: (برشلونة) تلك التي لا يمكن تخيّلها من دونه … ودون المبدع (ميرو) صاحب البعد الثالث في الرسم… وربما العاشر في الحياة وبعد التفكير والتأمّل.
(غاوودي) صمّم أجمل ما لايمكن أن تقع عليه عين الانسان في العالم وأبهى وأبهج ما يمكن أن يتخيّله العقل البشري …. عفوا، هل قلت عقلا بشريّا…؟
شهد بعبقريته العبقري النرجسي (سيلفادور دالي) وحسده على نبوغه وهو الذي يتعالى على كل نوابغ الأرض ويعتبر نفسه الأفضل على الدوام.
(غاوودي)، أكبر من أسطورة وأصغر قليلا من قّيس، ذهب بالمعمار نحو البعيد، حتى كاد أن يشارف على النهاية ويفتح على نفسه أبواب الجحيم … أروع جحيم.
قال لي الصديق الدكتور حسان عباس حين التقيته منذ سنوات في برشلونة أثناء الحوار الأورو متوسّطي: هل زرت هيكل الـ(الساكرادا فاميليا)؟
-هذا يعني العائلة المقدّسة، أليس كذلك؟….لا طبعا فالمغريات في أسبانيا كثيرة جدّا كما تعلم.
-اذهب وسوف لن تندم أبداً.
قصدت المكان وندمت كثيراً على عدم زيارته من قبل.
كان الهيكل الذي لم يكتمل بناؤه بعد أشبه بأسطورة تصفعك بروعتها في كلّ مرّة، تماثيل قدّيسين تعتلي بعضها بعضا، تتسلّق بعضها بعضا، حتى تتناهى إلى السماء، تسأل عن الصلبان التي عادة ما تعلو الأديرة والكنائس فيقال لك: (إنها موجودة، لكنك لا تستطيع مشاهدتها من الأسفل….لا يراها إلاّ الله.)
توزيع الضوء مدروس بطريقة خياليّة، بل تعجيزيّة، الأشكال مثل تلافيف الدماغ البشري…. بل وأكثر تعقيدا وفتنة وإدهاشا.
رفض غاوودي في سنواته الأخيرة تصميم القصور رغم الإغراءات المالية الهائلة من مختلف أنحاء العالم…. وفضّل أن يقترب من الله –المهندس الأوّل لهذا العالم الرائع-.
ليس غريبا أن يحاور غاوودي قصر الحمراء في الإقليم الجنوبي من بلاده ويسعى للتفوّق عليه، ليس غريباً أن لا يكتمل بناء رائعة (غاوودي ) إلى ما بعد وفاته …. إنها فلسفة الكون التي قال عنها مواطنه العربي منذ قرون:
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان * فلا يغرّ بطيب العيش إنسان.
هي الأمور كما شاهدتها دول * فمن سرّه زمن ساءته أزمان.
غاوودي الذي يكره السكك الحديديّة والخطوط المستقيمة والنظّارات الطبيّة، دهسه قطار ذات ظهيرة في برشلونة دون أن يراه أو يسمع صافرته؛ مات دون تحقّق حلمه الذي لا ينبغي له أن يتحقّق.
دفن غاوودي في الهيكل الحلم, زرت قبره وأشعلت شمعة بفضل نصيحة الصديق الدكتور حسان عباس .
طوّب الفاتيكان غاوودي قدّيسا في تسعينات القرن الماضي، قيل – والعهدة على الراوي- أنّ الهيكل قد انحنى إجلالا يوم جنازته.
لمن ترفع القبّعات أيها الفنان الذي رفع الحجارة إلى السماء.