الكتابة وسرّ المهنة
الكتابة وسرّ المهنة … أنا على يقين بأن أكثر الناس حديثا عن الحب ومعرفة بالحب هم أولئك الذين لا يعيشونه ,أوهم فرغوا منه فصاروا كالمهزوم الذي يحكي بطولاته للفتيان ,أمّا من ينسحق فيه فلا وقت له ولا قدرة على أن يكون الوجه والمرآة في ذات اللحظة …ذلك الأسماك لا تتعلّم السباحة ولا تعلّمها… بل تتذكرها -فقط – عندما تكون مقليّة أو مشويّة.
كذلك يبدي الناس اندهاشهم عادة من الكاتب الدرامي الذي يتناول تفاصيل فئة أو شريحة اجتماعية بإتقان العارف والمعايش دون أن ينتمي اليها ,وفاتهم أن أفراد الفئة المكتوب عنها لا يحسنون الانتباه لروتين أفعالهم وآليات تفكيرهم التي تبدو مثيرة للمتلقي الفضولي بطبعه.
المسألة طبعا , ليست تصويرا فوتوغرافيا باردا للمشهد المعاش وإنّما انتقائية فنية وقصديّة معرفيّة تشكّل سرّ المهنة التي لا يلعبها إلا الموهوبون من الذين اكتفوا بالمراقبة من فوق التلّة …. والمتفرج فارس دائما كما يقولون.
آمنة وممتعة هي المسافات بينك وبين المعارك الملاعب لكن الأمتع هو خوضها و الأ أمن هو خطورتها إلاّ أن ّ الكاتب مسكون ومحكوم بجبن وأنانيّة تضمن استمراره في التلصّص.
إنّ من يكتب بلغة أو لهجة لا يحلم ولا يغضب بها يصبح أكثر اتقانا لها لأن المسافة تسمح له بالتزويق والدخول في غواية التحدي ولذة الذهاب نحو الآخر فليس هناك ما هو أروع من تقبيل الحياة بأكثر من فم.
علمتني تجربتي الشخصية في كتابة النص المسرحي السوري وبالعاميّة الدمشقية جمال الانتماء الإرادي وسحر التوأمة بين أرصفة العالم وعدم السخرية من اللهجات وماذا يعني أن تقول لكل الناس :اني أحبكم وأقبّلكم بأكثر من فم.
الانتماءات كالأثواب , تضايقنا أحيانا ,نبدلها, نقصر فيها أو نوسع ولكننا لا نستغني عنها, فما أصعب وما أمر أن تقف على تخوم الأشياء وأطرافها ,تلامسها ولا تحضنها ,تبللك ولا تستحم فيها ,كأن قدرك أن تكون ناظر محطة يعرف مواعيد القطارات واتجاهاتها دون أن يركبها.
أستغرب أحيانا من الذين لا يجدون الا أنفسهم وحياتهم الخاصة مادة للكتابة الروائية ,هل أصيبوا بقصر النظر أو الفقر في الخيال والمعاشرة ؟ هل أن حياتهم استثنائية الى هذا الحد؟ أم أن المشكلة تكمن في سعيي أنا نحو الهروب من مكاشفة الذات على الورق وعجزي على العيش تحت الشمس وتحمل الشتائم قبل القبلات..
الأعمال الفنية العربية التي أدغمت فيها شخصيات الكاتب بالراوي بالشخصية الأساسية ضمن صوت واحد وصريح ومعلن…هي قليلة جدا ,لا بسبب الرغبة في النزوع نحو الالتباس الفني وإنّما خوفا من مصارحة قد ترخي بتبعاتها على الأهل والأصدقاء:
أعرف امرأة انفصلت عن زوجها بسبب رواية كتبتها لأن رجلا قد ظهر ويزعم أنه بطلها الفحل المقصود متنقلا بنسخة من الرواية بين المقاهي وقد وضع خطا تحت اسمه المغوار, وأعرف رجلا فضح سره الورق فتسابق الناس على نبذه وأوغل في الغربة والإنبتات فصغر حجمه في عيون الآخرين بسب تحليقه عاليا ,كما عاتبت شخصيا صديقا شاعرا ,وأدنته من فمه على (النيو لوك) الذي أطلّ به بعد أن قال في قصيدة سحيقة:(وما وضع في عنقه زردا وما نقش وشما على ساعديه ولكنه كان يمشي في الشوارع المزدحمة كعلامة فارقة. .)..ربما سيكتب صديقي الشاعر قصيدة أجمل لو يعترف يوما بنكوصه لعهده في لحظة اعتراف لا يعترف بها اإاّ الشعر وعل شاكلة أن موت المتنبي الشهير كان أكثر شعرا من بيته الذي قتله.
الخائفون هم الذين لا يستطيعون الحديث عن خوفهم والشرفاء هم الذين تحدثوا عن كبواتهم بشرف …أمّا أروعهم فهم الذين تحدثوا عن غيرهم بأنفسهم أو عن أنفسهم بغيرهم ,فكانوا الدمية ومحرّكها …ولم يتحدثوا عن الكتابة بالكتابة, فما أنبل وما أعظم أن يكون الواحد الوجه والمرآة …وعندئذ ,تصبح المسافة من مادة المطاط ,تطول وتقصر كما نريد لها أن تكون دون أن تخاف إلاّ من الخوف.