تاريخ

المسيرة الشهابية: نجاحات لم تكتمل

المسيرة الشهابية: نجاحات لم تكتمل….ما إن عقدت الحرب العالمية الثانية أوزارها بانتصار الحلفاء على المحور الألماني–الياباني-الإيطالي حتى بدأت رياح الاستقلال تهب على المنطقة وبخاصة على البلدان العربية التي كانت مأزومة ومحتلة بأكثريتها من دول الغرب الاستعمارية التي أخلفت بوعودها تجاهها أكثر من مرة، فضلاً عن دورها الخطير في إنشاء الدولة العبرية على أرض فلسطين ضد إرادة الفلسطينيين والعرب. ولمّا كان لبنان قد سبق أشقاءه في نيل الاستقلال، إلا إنه لم ينس ممانعة فرنسا وإجراءاتها القمعية ولم ينس مساعدات أشقائه الذين تضامنوا معه وآزروه، ولا سيما دمشق والقاهرة والرياض، على نيل مراميه من دون أن نتجاهل دور بريطانيا التي كانت لها مصلحة مرحلية في تحجيم دور فرنسا في لبنان والشرق. الاستقلال اللبناني الذي ارتبط داخلياً بالميثاق الوطني، ما كان له أن يثبت من دون التضامن العربي حوله مستفيداً أيضاً من رغبة موسكو في تصفية العهد الاستعماري، واتجاه واشنطن لاحتواء الحلفاء وتأييد استقلال الدول وتحويلها إلى أسواق تستوعب فائض الإنتاج الصناعي والزراعي الهائل لديها. لكن هذا الاستقلال الذي احتضنته البلدان العربية بقي مهدداً من الدول الغربية التي دخلت في حرب باردة مع الاتحاد السوفياتي وكانت بحاجة إلى تطويقه وإضعافه والحد من نفوذه الذي توسع في الشرق والعالم بعد نجاحه في القضاء على النازية وتشكيله حلفاً عسكرياً وسياسياً مع العديد من دول أوروبا الشرقية.

استقالة بشارة الخوري وانتخاب كميل شمعون

في هذا السياق، تعرّض لبنان لضغوط متواصلة طيلة عهد الرئيس بشارة الخوري للالتحاق بالمعسكر الغربي والانخراط في أحلافه التي كان حلف بغداد –أو حلف السنتو– أبرزها في المنطقة. ولإدراك بشارة الخوري، ومعه الكتلة الدستورية وأحزاب الاستقلال والتيارات العروبية، خطورة الانصياع لعواصم الغرب التي تهدد بسياستها التوازن الداخلي والسلم الأهلي وعلاقات لبنان العربية، فقد كان يرفض تلك العروض المسمومة محاولاً شرح موقف لبنان الدقيق من دون أن يلقى أذناً صاغية من أطراف لا يهمها سوى مصالحها وفرض رأيها على الآخرين. نتيجة هذا الرفض العنيد من جانب بشارة الخوري، اتفق الغرب مع القوى التقليدية العربية واللبنانية على إسقاطه من سدة الرئاسة والمجيء برئيس يقبل بانزياح لبنان إلى صف الحلفاء والأحلاف التابعة لهم. وتمّت عملية إسقاط بشارة الخوري بذريعة الفساد الذي استشرى في عهده، كما تم استبعاد حميد فرنجية، المرشح القوي للرئاسة، وترجيح كفة كميل شمعون عبر تدخل بريطاني مكشوف وصل إلى حد إلزام أديب الشيشكلي، حاكم سوريا، بالضغط على نواب الأطراف في لبنان –البقاع والشمال والجنوب– للتخلي عن حميد فرنجية وتأييد شمعون الذي سارع بعد انتخابه عام 1952 إلى الكشف عن أوراقه ورغبته في الانحياز للغرب وجماعته من العرب (بغداد وعمان)، مما استفز الشارع الوطني والعديد من أفراد الطبقة الحاكمة بمن فيهم بعض الذين أوصلوه إلى سدة الحكم كالزعيم الدرزي كمال جنبلاط.

سياسة الرئيس شمعون، الذي كان يتمتع بصلاحيات دستورية واسعة، أحدثت انقساماً حاداً في صفوف الطبقة السياسية انعكس انقساماً خطيراً على صعيد الشارع، فنشبت صراعات مسلحة بين أنصار الرئيس ومعه حزب الكتائب والحزب القومي السوري، من جهة، وبين المعارضة من جهة ثانية. دامت هذه الصراعات أشهراً في حين وقف الجيش اللبناني بقيادة اللواء فؤاد شهاب على الحياد. ذلك الموقف أهّل شهاب لاحقاً أن يكون موضع تفاهم بين الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور ورئيس الجمهورية العربية المتحدة(1) جمال عبد الناصر، بحيث انتخب شهاب رئيساً جديداً للجمهورية بأكثرية ساحقة بالتزامن مع توقف الاشتباكات بين الأطراف المتصارعة.

شهاب على رأس الجمهورية

باكورة أعمال شهاب على الصعيد الداخلي كانت تشكيل حكومة برئاسة رشيد كرامي سرعان ما سقطت تحت وطأة الخلاف بين أركانها ونشوب ما يسمى الثورة المضادة التي قادها حزب الكتائب. تدخّل شهاب لإعادة التوازن عبر حكومة رباعية ترأسها كرامي وشارك فيها حزب الكتائب بشخص رئيسه بيار الجميل وحزب الكتلة الوطنية بشخص رئيسه ريمون إده الذي كان قد ترشح للرئاسة ضد فؤاد شهاب نفسه. أمّا العضو الرابع فكان الحاج حسين العويني ممثل البرجوازية البيروتية القريبة من السعودية.

أما أول أعمال شهاب على الصعيد الخارجي، فكان الاجتماع الذي عقده مع الرئيس جمال عبد الناصر(2)، بصفته رئيس الجمهورية العربية المتحدة داخل خيمة على الحدود اللبنانية – السورية. الاجتماع كان حاسماً وأثمر عن اتفاق بين الطرفين تعهّد فيه شهاب بعدم الانحياز ضد الجمهورية العربية المتحدة واتباع خط الحياد في السياسة الخارجية، في حين تعهد عبد الناصر بدعم الاستقرار والعهد الجديد في لبنان.

المشروع الشهابي

كل ذلك مهد الطريق أمام شهاب للبدء في تنفيذ مشروعه اللبناني انطلاقاً من المفاهيم والأفكار التي كانت تنادي بها الكتلة الدستورية وهي نفس المفاهيم والأفكار الاستقلالية التي ثبتها شهاب في أثناء اجتماعه بعبد الناصر. سلك شهاب نهجاً إصلاحياً في مقاربته للقضية الاجتماعية الاقتصادية التي كانت السلطة الحاكمة تخفي تناقضاتها المتفجرة بالسكوت تارة والإعلام الكاذب تارة أخرى، كما اشتغل بكل طاقاته لإحداث توازن في المجتمع كان يراه ضرورياً لاستقرار البلاد ونموها وتمكينها من ممارسة دورها في تعزيز التضامن العربي بما يعود على لبنان والعرب بالنفع والازدهار. والجدير ذكره أن شهاب، العارف بالمعطيات اللبنانية وثغراتها، وهو الذي تنقل بحكم حرفته العسكرية مختلف المناطق معايناً أهلها وعشائرها ومواردها وإمكاناتها، كان حذراً جداً من الفئات الحاكمة يشكُّ بولائها للدولة ويدرك في الوقت نفسه مدى تماسكها ونفوذها وفسادها المتغلغل في المجتمع ومفاصل الدولة على حد سواء. لكل ذلك حاذر الاصطدام المباشر بها وحاول تخطيها بالنظرة الاقتصادية الاجتماعية الجديدة التي راح ينشرها في البلاد وأوساط الدولة مستعيناً بالجيش وبنخبة من الشخصيات المعروفة بعلمها ونزاهتها ورغبتها في العمل لتطوير الدولة اللبنانية.

ومتأثراً بنظرة الرئيس بشارة الخوري كان يدرك أيضاً أهمية المحيط العربي وضرورة إقامة علاقات وثيقة وندية معه قائمة على التعاون والمراعاة المتبادلة للمصالح. وهنا كان يرى أهمية الابتعاد عن الأحلاف الخارجية التي، حكماً، ما تثير الخلافات الداخلية وما يتلوها من اضطرابات كما حدث قبل تسلمه السلطة عندما اتجه الرئيس شمعون للانخراط في حلف بغداد مخالفاً بذلك الميثاق الوطني ومثيراً حفيظة بلدان عربية شقيقة أهمها مصر وسوريا والسعودية.

شخصيته وخلفيته العائلية والسياسية

كان فؤاد شهاب أبعد ما يكون عن السياسي التقليدي الذي يهمه زيادة ثروته وتوسيع دائرة نفوذه، وإنما كان عسكرياً بارزاً أدخلته ظروف البلاد ومعطياته الشخصية معترك السياسة، فتفوق على السياسيين في الإدارة والحكم، وبدا أمام الجمهور رئيساً ذكياً قنوعاً بما لديه، يحاذر أن يمتلك ما ليس له، يعرف حدوده ولا يتخطاها، ويسعى في الوقت نفسه من موقع سلطته أن يضع حداً لمن يتخطى حدود القانون و«الكتاب»(3).

يحتل الرئيس الراحل فؤاد شهاب مكانة مرموقة بين الرؤساء اللبنانيين الذين تعاقبوا على مقعد رئاسة الجمهورية اللبنانية الذي كان يتمتع بصلاحيات واسعة مستمدة من صلاحيات المندوب الفرنسي السامي أيام الانتداب، تلك الصلاحيات التي انتزع اتفاق الطائف بعضها وأهمها من الرئيس وأودعها مجلس الوزراء مجتمعاً. كان الأمير اللواء يشعر بالغربة في القصر الجمهوري حتى إنه استدعى مرة فؤاد بطرس –وزيره المفضل– ليسأله: «ما هو الجامع بين الجماعة التي نطلق عليها اسم نواب ووزراء وبيني؟ ماذا أفعل في هذا المكان؟»(4). كان واقعياً ينفر من المزايدين والكسالى وينظر للأمور كما هي بعيداً عن الخيال والأحلام رغم أنه حلم بلبنان حديث ومتطور. كان يكره اللف والدوران وينشد المصارحة من معاونيه لمعالجة أمور الدولة وشجون السياسة. على أنه، من جهة أخرى، لم تكن تنقصه روح المناورة وعادة الكتمان عندما كانت مصلحته أو مصلحة الدولة في الميزان. رغم بساطته، التي ساعدته المؤسسة العسكرية على بلورتها، فقد كان على جانب من الأرستقراطية التي استقاها من منبته العائلي وبيئته الاجتماعية. تحدّر الرئيس فؤاد شهاب من عائلة إقطاعية كان لها دور مهم في تاريخ جبل لبنان قبضت فيه على سلطة الإمارة مدة طويلة. وعاش في ظل تلك الإمارة الشهابية الدروز والمسيحيون إلى جانب أقليات من الطوائف الإسلامية الأخرى التي كانت تسكن بأغلبيتها السواحل (السنة) أو البقاع (الشيعة). ولذلك كان الرئيس شهاب يلقب بالأمير الشهابي القريب من كل الطوائف والممسك بقوة مؤسسة الجيش التي ورثها عن الفرنسيين بكل ما لها من ثقل ونفوذ وتواجد في مختلف المناطق اللبنانية والمؤلفة من سائر أبناء الطوائف، مع أرجحية واضحة للطائفة المارونية خاصة في سلك الضباط.

اهتم شهاب بالمناطق المتخلفة من لبنان وتعرّف إلى أهلها وعشائرها وتفهّم أوضاعهم في المناطق النائية التي كانوا يعيشون فيها. وبالمقابل كان يعرف أركان الطبقة السياسية عن كثب مثلما كان قريباً من المناخ السياسي السائد الذي فضل الانعزال عنه رافضاً التماهي معه لعلمه بمشكلاته وآفاته، من جهة، ولشعوره الدفين بالتفوق عليه كونه قائداً عسكرياً آتياً من بيئة أميرية حاكمة منذ زمن بعيد. خفف وجوده في سدة الرئاسة من التوترات الطائفية التي كانت تطل على الساحة كلما أراد الزعماء تأجيجها بغية الحصول على مكسب سياسي أو زعامة شعبية داخل الطائفة التي ينتمون إليها. فقد كان العديد من الأقلام يعتبره قاسماً مشتركاً بين المسيحيين والمسلمين والدروز كون عائلته السنية بالأساس مرت خلال حكمها للبنان بتحولات شبيهة بالتحولات التي مرت بها عائلات إقطاعية أخرى ارتأت تغيير مذاهبها تبعاً للمتغيرات في موازين القوى السياسية التي عاشتها المنطقة، خاصة في ظل التسرب الأوروبي إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط وتحوله إلى وجود ذي نفوذ، ومن ثم إلى شريك قوي في القرار مع السلطنة العثمانية.

استطاع شهاب أن يحد من سلطة مجلس النواب ويفرض على البلاد منهجية المراسيم الاشتراعية التي استعان بها لإصدار قوانين بوقت قياسي بحيث تمكّن من تفعيل المؤسسات القائمة وإنشاء مؤسسات جديدة تعمل بفعالية وانتظام بهمة موظفين كبار يتمتعون بحس المسؤولية فتأمن توازن مرحلي بين مختلف مفاصل الدولة مما أدى بدوره إلى استقرار في البلاد ساهم في تنشيط السياحة والمصارف والصناعة والجامعات وإنعاش المناطق المحرومة.

شهاب والنهج الإصلاحي

لم يكن فؤاد شهاب ثائراً على النظام اللبناني مصمماً على تغييره، وإنما كان من صميم هذا النظام وُلد في رحمه واشتغل في مؤسساته حتى أصبح قائداً لجيشه ورئيساً لدولته التي اختبر رجالاتها وشخصياتها وعرف مداخلها ومخارجها. صحيح أنه تربى في كنف الانتداب الفرنسي والطبقة الحاكمة التابعة لهذا الانتداب وتقاليده «العريقة» في الرشوة وصرف النفوذ، إلا أنه كان من المُكتفين، كارهاً للسطو على المال العام كرهه لآكلة الجبنة الذين كان يرى في جشعهم تهديداً للنظام الموروث الذي أراد حمايته وتطويره تجنباً لسقوطه بيد اليسار أو التيار العروبي. ولتحقيق ذلك، على ما يقول منح الصلح، تبنّى شهاب القليل من العروبة في سياسته الخارجية ليدفع الكثير منها في سياسته الداخلية، حيث اعتبر أن تحديث الدولة هو الأسلوب الناجع في مخاطبة فئاتها المختلفة وخاصة الفئات محدودة الدخل. أمّا الطبقة الحاكمة، فقد ارتأى ضرورةً لتقليم أظافرها الطويلة ولو بحذر شديد تفادياً لثورتها عليه وهي التي قبلت برئاسته على مضض.

دور الأب لوبريه

وفي هذا السبيل، استعان شهاب بالغرب نفسه الذي هندس النظام اللبناني واتكل على رجل دين فرنسي، يؤمن بالعدالة الاجتماعية وتحجيم الاحتكار وتمكين الفقراء وتحديث الدولة، لإعادة النظر في مؤسسات النظام وإعادة هيكلتها من جديد لضخ روح الحداثة في أوصالها فتكون قادرة على التطور، من جهة، والثبات بوجه تيارات الثورة والتغيير التي كانت تعصف بلبنان كما في المنطقة كلها من جهة أخرى. على هذا الأساس درست البعثة الفرنسية برئاسة الأب لوبريه الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في لبنان وسجلت ظاهرتين اعتبرتهما جرس إنذار لما يتهدد النظام: الأوّل ارتفاع نسبة الفقر بين اللبنانيين وخاصة في الأرياف وضواحي المدن، والثاني تمركز الثروة بيد قلة قليلة من الرأسماليين والمصرفيين وكبار التجار. ولمعالجة هاتين الظاهرتين أفتت البعثة الفرنسية بإنشاء المؤسسات التي تعنى بالتحديث والإنماء الشامل المتوازن وتعزيز أوضاع الطبقات محدودة الدخل –كالمشروع الأخضر، الضمان الاجتماعي، مصلحة الإنعاش الاجتماعي، فضلاً عن البنك المركزي، هيئات الرقابة، مجلس المشاريع الإنشائية، وسواها.

وبتركيزه على التوازن السياسي داخلياً وعربياً شعر المواطنون والمغتربون باستقرار الأوضاع فزادت ثقتهم بالنظام وازداد استثمارهم فيه مما ساهم في تنشيط الحياة الاقتصادية عموماً وازدهار القطاع المصرفي المستفيد من أموال النفط وتحويلات العرب والمغتربين إلى بيروت. أمّا البنك المركزي الذي مثّل درة الإنجازات الشهابية، والذي بُني في فترة قياسية، فقد اشتغل بفعالية تحت مظلة قانون النقد والتسليف وبقيادة شخصيات لها مكانتها وسمعتها الحسنة كان أبرزهم الوزير فيليب تقلا والقاضي إلياس سركيس ولاحقاً الدكتور إدمون نعيم. وقد تمكّن البنك المركزي، بالتعاون مع لجنة الرقابة على المصارف (سليم الحص)، من تنظيم العمل المصرفي والتحقق من التزام المصارف بأحكام قانون النقد والتسليف وتحقيق الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية وتخزين كميات وازنة من الذهب لا زالت حتى اليوم تشكل رصيداً للبنان واقتصاده المتدهور.

تقبلت الفئات الحاكمة الإجراءات الإصلاحية التي قام بها فؤاد شهاب على مضض حيث لم تكن هذه الفئات مقتنعة بتعديل بنية النظام وضبطه واعتماد هيئات الرقابة وتحسين أوضاع الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل، وإنما كانت تعتقد بتقليص تدخل الدولة في القطاعات الاقتصادية والمالية والمصرفية وحريصة أن تبقى هذه القطاعات تحت سلطتها الفعلية. لكن فؤاد شهاب، القائد العسكري المعتاد على بساطة العيش المعتز بمكانته العسكرية وإرثه العائلي، لم تأخذه جاذبية المال وإنما الحرص على السمعة والنجاح الميداني، فمضى في خطوات متلاحقة لتعزيز بنية الدولة بالمؤسسات الإدارية والاجتماعية والإنمائية متخطياً موقف الطبقة السياسية الموسرة التي فهمت السياسة سلطة تمارسها ومنصة تراكم من خلالها المال. فزاد ذلك من رصيده في إدارة شؤون الدولة بوجه هذه الطبقة التي ازداد توجسها منه ومن سياساته خوفاً على مصالحها ونفوذها.

تقييم عام لمسيرته

نظر شهاب إلى الرئاسة كوظيفة رفيعة يُلزمه الواجب تحمّل أوزارها، لكنه لم يُقبل عليها بشبق السياسي الطموح أو رعونة العسكري الانقلابي، بل إنه كان ينتظر الساعة التي تنتهي فيها ولايته القانونية حتى يسلّم الأمانة إلى خلفه من دون أن يفكّر بالتمديد أو التجديد، تلك الآفات الفتاكة التي دخلت الجسم السياسي اللبناني ولم تخرج منه بعد. وعندما حانت الفرصة مرة أخرى لانتخابه وفقاً لأحكام الدستور رفض العروض لأسباب سياسية، إذ كان يعلم أن المنطقة تغلي كالمرجل حاملة معها رياح الحروب والثورة والتغيير، في وقت كان يدرك فيه هشاشة النظام الذي رفضت فئاته الحاكمة تطوير مؤسساته المختلفة باتجاه أكثر توازناً وأكثر عدالة، كما رفضت فك ارتباطها بالاحتكارات التي كانت تسلب الناس أموالهم وتعطّل النظام الاقتصادي الحر وتزيد من حجم الطبقات الكادحة التي تعيش على خط الفقر أو تحته.

وهنا يجب الاعتراف بأن الخطوات الإصلاحية التي قام بها شهاب زادت من رصيده السياسي ورفعت من قدرته على إدارة شؤون الدولة، لكنها لم تتمكن من احتواء أكلة الجبنة الذين كانوا ينتظرون الفرصة للانقضاض عليه وعلى إنجازاته.

وإذ اتكل شهاب على الجيش والمكتب الثاني بصورة خاصة لتدعيم حكمه وترسيخ سلطته، سجل في هذا الاتجاه نجاحات ملموسة في بداية عهده، ولا سيّما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب السوري القومي الاجتماعي. إلا أنه يجب التسجيل هنا أن مصدر قوته هذا أصبح مكمن ضعفه، إذ إن الجيش، بعدما شدد قبضته على البلاد وأخذ باعتقال الآلاف ممن ليس لهم أي علاقة بالانقلاب، أثار على العهد نقمة واسعة بين صفوف الناس، نقمة عززتها ممارسات انتقامية وقمعية كان يقوم بها ضد هؤلاء الناس المكتب الثاني والمجموعات التي شكّلها من وصوليين وانتهازيين تخصصوا بإيذاء المواطنين في مصالحهم ومعنوياتهم. كذلك يجب تسجيل التدخلات السافرة للمكتب الثاني وأجهزته وجماعاته في شؤون الدولة كافة، وصولاً إلى القضاء والإعلام والوظيفة العامة والبلديات والمخاتير والمعاملات ما أدى إلى غضب جزء كبير من الرأي العام على الشهابية، واستطراداً الرئيس شهاب نفسه. كل ذلك هيّأ الأجواء لقيام الحلف الثلاثي (شمعون، الجميل، إده) ومن ثم انتصاره في الانتخابات النيابية 1968، مستفيداً من خسارة مصر وسوريا حرب 1967 وتقلّص نفوذهما في لبنان.

ولمّا كان شهاب يفتقر إلى التنظيمات الشعبية المنبثقة من تجربته الإنمائية والإصلاحية ومتّكلاً بصورة رئيسية على الجيش وبعض الشخصيات والأنصار، فقد وجد صعوبة عام 1968 – عام الانتخابات ـــ في صدّ الهجمة الكبيرة على مشروعه، وخاصة أن رئيس الجمهورية شارل حلو كان قد ابتعد عنه قائلاً لأصفيائه: «إن البلد يستحيل حكمه من قبل رئيسين». وكان الرئيس حلو، الذي اعتبره البعض العضو الرابع في الحلف الثلاثي، قد حاول مراراً الحدّ من نفوذ المكتب الثاني وإملاءاته ولكن دون جدوى، الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة، مكرراً تجربة شهاب في وضع الجميع أمام مسؤولياتهم، ما حفز أكثرية النواب إلى مناشدته العودة عن الاستقالة خوفاً من الفراغ والفوضى.

سنة 1970، وقبل انتهاء ولاية الرئيس شارل حلو، احتار نواب النهج الشهابي وحلفاؤهم حول من يرشحون لرئاسة الجمهورية حفاظاً على المكتسبات التي فرّط بها عهد الرئيس حلو وهددتها التطورات (5) الإقليمية التي أرخت بثقلها على لبنان كونه الحلقة الأضعف في السلسلة العربية، فضلاً عن التطورات الداخلية المتأثرة بأحداث الخارج (6) والتي كان لها، بدورها، تأثيرها البالغ على المناخ السياسي، إذ انقسمت الطبقة الحاكمة على نفسها بين متفهم للوجود الفلسطيني في لبنان ومعارض لهذا الوجود. وكان هذا الانقسام الذي انعكس على الشارع يزداد حدة بتصاعد المواقف الفلسطينية ضد العدو الصهيوني وقيام هذا العدو باعتداءات مباشرة ومؤلمة على المواطنين والمخيمات والبنى التحتية كلما وجد مصلحة له في ذلك، بغضّ النظر عن القرارات الدولية التي استهتر بها بقدر ما تمسّك بها لبنان.

من جهة أخرى، وتبعاً لتمركز رأس المال ورفض الفئات الحاكمة، ومعهم التجار الكبار والاحتكار، اعتمادَ نظام ضرائبي عادل، والإصرار على الإعفاءات الضريبية بحجة تشجيع الاستثمارات، والتركيز على الضرائب غير المباشرة، وإسكات المعارضة الشعبية وإضعاف النقابات… فقد ساهم ذلك كله في إذكاء نار الصراع السياسي والاجتماعي وربطهما ببعضهما البعض، حيث شهدت الساحات والشوارع والجامعات صراعاً متواصلاً بين دعاة الاقتصاد الحر (المعارضين للوجود الفلسطيني) ودعاة الإصلاح والتغيير (المتحالفين مع الثورة الفلسطينية) – وكان جل هؤلاء من الأحزاب والشخصيات والجمعيات الطلابية والنقابات التي وافقت بمعظمها على قيادة كمال جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي للجبهة التقدمية.

في ظل هذا الجو الانشطاري المتوتر، سواء على الصعيد العربي أو على الصعيد اللبناني، طالب النواب الشهابيون رئيسهم بترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة صيف عام 1970، لكن فؤاد شهاب رفض العرض رغم أن معظم الأوساط السياسية كانت ترجح فوزه. فلماذا رفض شهاب تحمّل المسؤولية، وخاصة أنها كانت تعطيه الفرصة لاستكمال مشروعه السياسي، واستعادة نفوذه وحماية أصحابه ومنجزاته؟! تعدّدت الاجتهادات في هذا الأمر، وذهبت الآراء في غير اتجاه. غير أن الحقيقة انكشفت في البيان الذي أذاعه شهاب في 4 آب 1970 وذكر فيه: «إن المؤسسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي لم تعد في اعتقادي تشكل أداة صالحة للنهوض بلبنان وفقاً لما تفرضه السبعينيات في جميع الميادين، ذلك أن مؤسساتنا التي تجاوزتها الأنظمة الحديثة في كثير من النواحي سعياً وراء فعالية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداث عابرة ومؤقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعمل جدي على الصعيد الوطني» (7).

بيان العزوف عن الترشح للانتخابات الرئاسية كان واضحاً. ولا شك أنه تعاون مع الوزير فؤاد بطرس على تهيئة أفكاره وإعداد نصه، ولكن يبقى أمور ثلاثة يجب الإشارة إليها:

أولاً، طلب شهاب منحه سلطات استثنائية شرطاً للقبول لاقتناعه بأن طبيعة الحكم في لبنان لن تسمح باتخاذ قرارات حاسمة لمعالجة المشاكل العميقة التي تعتري الوضع السياسي والاقتصادي. فالرئيس شهاب الذي كان يخشى الفشل في مهمته كان يعرف أن زيادة سلطات رئيس الجمهورية لن تمر في البرلمان ولا في الشارع، في الوقت الذي كان فيه العديد من الأوساط الإسلامية والوطنية يطالب بتقليص سلطات رئيس الجمهورية وتكريس المناصفة. ثانياً، تدهور صحة الرئيس وشعوره بالتعب الجسدي كما النفسي نظراً إلى الخيبات التي عاشها إثر الأحداث الجسيمة التي مرت في العالم العربي (هزيمة 5 حزيران)، كما في لبنان حيث تجذّر الوضع الفلسطيني وانقسم اللبنانيون حوله من منطلقات طائفية واجتماعية.

ثالثاً، عندما طُرح موضوع رئاسته للجمهورية مرة ثانية لم يكن للرئيس شهاب حليف عربي قوي بعد تراجع نفوذ جمال عبد الناصر وسطوته إثر هزيمة 5 حزيران 1967، بل كان يشعر بأن الميزان العربي هو إلى جانب الفلسطينيين الذين كانت شعبيتهم في الذروة لاعتمادهم أسلوب الكفاح المسلح بوجه العدو الصهيوني الذي تمكّن من كسر القوى العربية وتحطيمها صبيحة 5 حزيران 1967. وهنا لا بد من التوقف عند موقف الشهابية من الوجود الفلسطيني في لبنان، وخاصة بعد تحول هذا الوجود إلى لاعب أساسي على الأرض اللبنانية يتفاعل مع شعبها ويؤثر في معادلاتها. وإذا كان صحيحاً أن النهج الشهابي قد ساند القضية الفلسطينية على وجه العموم، آخذاً موقف عبد الناصر والقوى العروبية التحررية بالحسبان، إلا إنه بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين فقد اقتصرت نظرة النهج نحوهم على الناحية الأمنية، إذ كان يعتبر وجودهم معضلة أمنية لا حل لها إلا بتشديد الرقابة عليهم وحصرهم في المخيمات وتقييد حركتهم ما أمكن، مع مراعاة نسبية لحقوقهم في الإقامة والتسجيل والتعليم والسفر وسواها، من دون أن يشمل ذلك العمل في حقول كثيرة؛ أهمها الطب والمحاماة والهندسة والصيدلة. أمّا الطبقة الوسطى وأغنياء الفلسطينيين الذين ساهموا في رفع مستوى التعليم الجامعي والثانوي وساهموا في تطوير المصارف وقطاع الأعمال، فكانت معاملتهم أفضل من دون أن يغيّر ذلك في الواقع المأزوم الذي عاشه هؤلاء في لبنان طوال الفترة الشهابية، ما زاد من اندفاعهم نحو الثورة الفلسطينية وفصائلها الناشئة في المخيمات القائمة على الأراضي اللبنانية أو تلك القادمة من عمان ودمشق. مما لا شك فيه أن بعض الفلسطينيين الذين خرجوا من سلطة المكتب الثاني كانوا لأسباب مختلفة يرتكبون تجاوزات ومخالفات، ما أساء إلى النضال الفلسطيني وحلفائه في لبنان.

لكن ينبغي القول أيضاً إن المكتب الثاني، الذي لم يفقد سلطته، كان يعتبر أن الحكمة تقضي بتضييق الخناق على الفلسطينيين ومراعاتهم فقط عند اللزوم تبعاً لتزايد قوتهم ونسجهم علاقات مهمة مع بعض الدول العربية، فضلاً عن الداخل اللبناني. ولذلك اهتم المكتب الثاني بإلصاق تهم بالفلسطينيين بغية تشويه نضالهم وإضعاف وجودهم. وهذه التهم كانت تحبذها بعض أجهزة الاستخبارات العربية التي اعتقدت أن هذا الأسلوب يساعد على إبعاد تداعيات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي عن أراضيها. وفي هذا الصدد، يقول الرئيس صائب سلام في مذكراته إنه «نبّه رشيد كرامي إلى خطورة وضع كل المصائب على الفلسطينيين» (راجع «الأخبار» 24 أيلول 2022). هذا مع العلم أن الجيش الذي كان أسير قرار سياسي بعدم مواجهة إسرائيل والالتزام باتفاقية الهدنة كان من جانب آخر مرتبطاً بعقيدة «قوة لبنان في ضعفه»، ما جعل سلام يتهمه بافتعال معارك ضد الفلسطينيين والتفرج على هجمة الكوماندوس الصهيوني على مطار بيروت وقيامه بتدمير أسطول الطيران المدني، فضلاً عن الهجمة اللاحقة على القادة الثلاثة: كمال ناصر، أبو يوسف النجار وكمال عدوان، في محلة فردان – رأس بيروت. وهنا يجدر القول بأن موقف الدولة عموماً، والجيش خصوصاً، من الاعتداءات الإسرائيلية ورفضهما التصدي الفاعل لأي عدوان ساهما في زيادة شعبية اليسار اللبناني وانتشار النقمة على النظام والجيش في الأوساط الشعبية، باستثناء أكثرية المناطق الشرقية حيث كان النفوذ الأكبر للأحزاب اليمينية. كل هذه التطورات رسخت اقتناع شهاب بترجيح كفة العسكريين في ميزان الحكم وأجهزته وربط العديد من أنصاره السياسيين بالمكتب الثاني الذي كان يؤدي دوراً مهماً في محاصرة الفلسطينيين واختيار المرشحين لمجلس النواب والمجالس البلدية، وصولاً إلى تنظيم وإدارة حملاتهم الانتخابية، الأمر الذي ولّد نفوراً بين الناس والسلطة الشهابية وأدى إلى محاصرتها من اليسار كما من اليمين.

أمّا الثغرة الكبرى في تفكير شهاب ذي الخلفية العسكرية، فكانت عدم اقتناعه بتأسيس حزب أو تنظيم شعبي يحمل أفكار العهد، فبقي عهده مكشوفاً من دون حماية شعبية حقيقية، ما سهّل إطاحته بعد الهجوم المركّز الذي شنّه عتاة السياسيين على أقطاب المكتب الثاني ونجاحهم في تشتيت القاعدة الصلبة التي كان الرئيس شهاب يستند إليها في حكمه الذي تجاوز مدة ولايته الدستورية.

وأخيراً وليس أخراً، يُسجل للرئيس فؤاد شهاب دخوله وخروجه من محراب السلطة بهدوء، إذ كان ملتزماً بتداول السلطة رافضاً انتهاك الدستور أو تطويع بعض أحكامه ،معتبراً أن للجمهورية تقاليد يجب التمسك بها و«كتاباً» يجب أن يحترم. وإذا كان للرئيس شهاب ممارسات تشي بخرق الدستور كالمراسيم الاشتراعية وتغوّل سلطة المكتب الثاني، إلا أنه كان حريصاً على العمل من ضمن الشرعية ومراعاة الرأي العام، ولذلك رفض أن يكون قريبه النائب عبد العزيز شهاب مرشحاً للنهج الشهابي في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1964، رغم التفاف عدد كبير من النواب حوله. كما رفض أن يكون مرشحه للرئاسة عسكرياً، رغم ثقته بالعسكر واتكاله عليهم، طارحاً اسم شارل حلو، الدبلوماسي والمثقف الفرنكوفوني، كبديل منهما في انتخابات الرئاسة.

خلاصة القول إن المسيرة الشهابية كانت، ولا شك، عبارة عن مبادرات إيجابية مترابطة لبناء الدولة على قواعد ميثاقية وأسس حديثة. لكن هذه المبادرات لم تكتمل ولم تثمر كما خطّط لها فؤاد شهاب، لا بل استطاع أعداؤها، عبر الأيام، إفراغها من مضمونها أو إسقاطها كلياً.

*كاتب وسياسي لبناني

هوامش

(1) الجمهورية العربية المتحدة، أو دولة الوحدة، التي قامت بين مصر وسوريا في 22 شباط 1958 وتم الانقلاب عليها في 28 أيلول 1961

(2) رفض عبد الناصر استمرار التبعية لبريطانيا أو سواها من دول الغرب بعدما التزم سياسة عدم الانحياز وكذلك مقررات مؤتمر باندونغ. وكان من الطبيعي بعد التجربة المُرّة، واستيراد السلاح والسد العالي، أن يرفض الدخول في أحلاف، وخاصة تلك التي تقودها بريطانيا والولايات المتحدة.

(3) الكتاب يعني الدستور بالنسبة إلى شهاب

(4) راجع كتاب فؤاد بطرس الصادر عن «دار النهار» ص. 64

(5) أهم هذه التطورات هزيمة القوات المصرية والسورية والأردنية أمام الجيش الإسرائيلي في حرب خاطفة دامت ستة أيام، ما أثار الجماهير العربية في كل مكان على العسكريتاريا والأنظمة الحاكمة وجعلها تتجه لتأييد المنظمات الفدائية الفلسطينية وخاصة بعد معركة الكرامة التي سجل فيها الفدائيون الفلسطينيون، بالتعاون مع كتيبة مدفعية أردنية، انتصاراً كبيراً على القوات الصهيونية، الأمر الذي رفع المعنويات الشعبية وزاد من عزلة الأنظمة العربية.

(6) أمّا في لبنان، الذي شهد تحركات طلابية وشعبية وسياسية تأييداً للفلسطينيين، فقد شهد أيضاً تحركات مناهضة من أحزاب يمينية كانت تعتبر أن التحرّك الفلسطيني يعرّض لبنان للخطر. غير أنه بعد الاعتداء السافر على مطار بيروت (وهو منشأة مدنية) في 28 كانون الأول 1968 وتفجير 14 طائرة لشركة الميدل إيست، حدث تحوّل ملموس في الرأي العام اللبناني ضد «إسرائيل» واعتداءاتها المدمرة، ولكن هذا التحوّل لم يكن كافياً لردم الهوة بين المعسكرين والتي زادت مع مرور الأيام.

(7) راجع الصحف اللبنانية الصادرة بتاريخ 4 آب 1970.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى