(الموسيقا )..لا تكتب إلاّ بالألف الممدودة
حين سئل بيتهوفن عن سبب استمراره في التأليف الموسيقا بعد أن فقد السمع –أوكاد- قال: (أنا لا أستمع إليها، بل أشاهدها)…
يروى عن صاحب الأصابع التي سحرت العالم أنّه كان في محنته يضع أسلاكا نحاسيّة بين أسنانه ويصلها بآلة البيانو يقيس حجم الذبذبات والارتجاجات التي تصله أثناء العزف… ثمّ يحوّلها إلى نوط مكتوبة فمسموعة…. فمدهشة..
هكذا تتحدّى العبقريّة الحواسّ في غيابها وعدم امتثالها قسراً …أو طوعاً .. كما حدث مع الملقّب بشيطان الكمان (بغانيني) حين أطلق صهيل جنونه في أحد تجلّياته الموسيقيّة، حتى انقطعت به أغلب الأوتار، وذلك لشدّة عصبيته ، فلم يبق منها إلاّ واحدة ، واصل الإدهاش على نفس السويّة، بل وأكثر. سألته إحدى الحاضرات – وكان يحبّها في صمت- : (كيف تسنّى لك ذلك ..!؟) فأجاب: (لكم تمنّيت الاستمرار في العزف دون أيّ وتر يا سيدتي)..
هذه هي الموسيقا، أطول الألسنة وأفصحها، لغة الذين ينطقون عن (الهواء) ويتحدّثون باسم السحب والأنواء والمسافات..
الموسيقيون قوم تعبت في مرادهم الأجسام والعلل والخجل، فهزموا قواعد النحو والصرف والإيتيكيت..
حاوروا القصب والخشب والجلود والوبر نفخاً وقرعاً وضرباً وهمساً ولمساً…. ولكن… هل أسمعت أنغامهم كلّ من بهم صمم ..!؟.
هم – في أغلبهم- فليلو الكلام، كثيرو التذكّر، سريعو النسيان، واهنو الحركة، شاردو الذهن، ذابلو العيون، نافرو الأصابع…. لكنّهم واثقو الخطوات … مثل ملاك لا يحتاج إلى المشي…أو حتى الترجّل..
أحب أصدقائي الموسيقا لأني (أحسدهم)… أسكت في حضورهم مثل نحلة فوق زهرة، وأكتفي بكلمة (الله ..!) … تماماً مثل الصلاة والتضرّع والندم والحب والشفقة… والخوف من عالم قد تغيب فيه الموسيقا..
المعذرة أيها النحويون، من قال إن (الموسيقا ) تكتب بألف مقصورة؟!,إنها لا تكتب إلاّ بألف ممدودة العنق نحو السماء مثل بجعات الباليه وراقصي الميلويّة وصوامع النسّاك والزاهدين في الكلام فوق الكلام.
تتحدّث الرواية القديمة عن ذاك الرجل الذي دخل مجلس الخليفة العبّاسي بآلة غريبة، عزف عليها فأضحكهم ثمّ أبكاهم ثمّ أنامهم وغادر…. لكنّ الراوي غفل عن ذكر عبارة :(ثمّ عاد في صباح اليوم التالي فأيقظهم وصحّاهم..)
ليته لم يعد، فنوم الظالمين والأغبياء والحمقى – كما تعلمون- عبادة يكافئ عليها المتسبّب في النوم والساهر على راحة وسكينة البلاد والعباد..
ليته عاد – كما في الرواية الثانية- لعلّ ذلك الخليفة وبطانته يصحون على سماع الموسيقا، بدلاً من النمائم والدسائس … وقرع طبول الحرب وأبواق التأهّب و صليل السيوف ونعيق الغربان المحلّقة فوق الجثث..
ليس غريباً أن تدعى الموسيقا بغذاء الروح إذا نظرنا إلى الشفاه والألسن والأصابع والأفواه المنشغلة بالنفخ والغناء والعزف قبل الأكل وتناول الطعام أو التفرّغ للنميمة..
ليس غريباً أن يكنّى الموسيقي بالنبيل الصامت ، وهو الذي يحضن آلة العود والربابة، ينحني للكمان، يهمس للناي، يحاور الطبل… ويجلس إلى البيانو بكامل أناقته وقد حطّت فراشة حريريّة سوداء على رقبته تكريماً وإجلالاً. تنصت إليه جدران القاعة دون تهامس أو تململ أو سعال أو نعاس، يفرغ كلّ ما في أصابعه من حنين و(خواتم)… ثمّ يعود إلى بيته وهو يحتضن آلته …ويحتضنه الأفق.
الموسيقي ترجمان الآلة قبل سامعها، إنه أنين القصب الذي اجتثّ من أحراشه البعيدة، ألم الجلود التي غادرت أصحابها وشجن الخشب الذي غادر أمّه.
هو ترجمان الأشواق الذي أراده محي الدين بن عربي حين رأى فيما يرى النائم أنّه يضاجع الكلمات بمنتهى الطهارة والإستشراف..
من يتذوّق الموسيقا (بألفها الممدودة)، يرتقي مع أنغامها عن الضغائن والأحقاد لأنّه عارف بالمقامات…… المقامات التي لا تستطيع أن تعرّفها الأقلام والمعاجم، بل الأرواح قبل الآذان والمهارات والحفظ والمدارس..
ثمّة من يسمع وثمّة من يستمع، ثمّة من يطرب، من يرقص، من يتمايل، من يغمض عينيه، من يحلّق حتى يذوب شمع الجناحين على طريقة (ايخروس) الاغريقي و(ابن فرناس) الأندلسي ..
الموسيقي يكتب بخطّ سرّي…لا، عفواً… إنه يكتب بحبل سريّ يصلك مع الرحم الأوّل والعشق الأوّل واللغة الأولى..